للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

عوجًا غير معتدلة ﴿وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾ أي: جاحدون بها مكذبون بوقوعها وكونها

﴿أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ﴾ أي: بل كانوا تحت قهره وغلبته وفي قبضته وسلطانه، وهو قادر على الانتقام منهم في الدار الدنيا قبل الآخرة ﴿إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾ [إبراهيم: ٤٢].

وفي الصحيحين: "إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته" (١)، ولهذا قال تعالى: ﴿يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ﴾ الآية، أي: يضاعف عليهم العذاب، وذلك أن الله تعالى جعل لهم سمعًا وأبصارًا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم، بل كانوا صُمًّا عن سماع الحق عُميًا عن اتباعه، كما أخبر تعالى عنهم حين دخولهم النار: ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (١٠)[الملك] وقال تعالى: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (٨٨)[النحل]، ولهذا يعذبون على كل أمر تركوه وعلى كل نهي ارتكبوه، ولهذا كان أصح الأقوال: أنهم مكلفون بفروع الشرائع أمرها ونهيها بالنسبة إلى الدار الآخرة.

وقوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٢١)﴾ أي: خسروا أنفسهم لأنهم أدخلوا نارًا حامية فهم معذبون فيها لا يُفتَّر عنهم من عذابها طرفة عين كما قال تعالى: ﴿كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا﴾ [الإسراء: ٩٧].

﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ﴾ أي: ذهب عنهم ﴿مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ من دون الله من الأنداد والأصنام فلم تجد عنهم شيئًا بل ضرتهم كل الضرر، وكما قال تعالى: ﴿وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (٦)[الأحقاف].

قال تعالى: ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢)[مريم] وقال الخليل لقومه: ﴿إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ [العنكبوت: ٢٥] وقوله: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (١٦٦)[البقرة] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على خسرهم ودمارهم، ولهذا قال: ﴿لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٢٢)﴾ يخبر تعالى عن حالهم أنهم أخسر الناس صفقة في الدار الآخرة، لأنهم استبدلوا الدركات عن الدرجات، واعتاضوا عن نعيم الجنان بحميم آن، وعن شرب الرحيق المختوم بسموم وحميم وظل من يحموم، وعن الحور العين بطعام من غسلين، وعن القصور العالية بالهاوية، وعن قرب الرحمن ورؤيته بغضب الديان وعقوبته، فلا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون.

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٣) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (٢٤)﴾.

لما ذكر تعالى حال الأشقياء ثنّى بذكر السعداء وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فآمنت


(١) تقدم تخريجه في تفسير سورة البقرة آية ١٢٦.