للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

الكافرين على نوح وأتباعه، وهو دليل على جهلهم وقلة علمهم وعقلهم، فإنه ليس بعار على الحق رذالة من اتبعه، فإن الحق في نفسه صحيح سواء اتبعه الأشراف أو الأراذل، بل الحق الذي لا شك فيه أن أتباع الحق هم الأشراف ولو كانوا فقراء، والذين يأبونه هم الأراذل ولو كانوا أغنياء، ثم الواقع غالبًا أن ما يتبع الحق ضعفاء الناس، والغالب على الأشراف والكبراء مخالفته كما قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣)[الزخرف].

ولما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان صخر بن حرب عن صفات النبي قال له فيما قال: أشراف الناس اتبعوه أو ضعفاؤهم؟ قال: بل ضعفاؤهم، فقال هرقل: هم أتباع الرسل (١).

وقولهم: ﴿بَادِيَ الرَّأْيِ﴾ ليس بمذمة ولا عيب لأن الحق إذا وضح لا يبقى للرأي ولا للفكر مجال بل لا بدّ من اتباع الحق والحالة هذه لكل ذي زكاء وذكاء بل لا يفكر ويُروي ههنا إلا غبي أو عيي، والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين إنما جاءوا بأمر جليٍّ واضح.

وقد جاء في الحديث أن رسول الله قال: "ما دعوت أحدًا إلى الإسلام إلا كانت له كبوة غير أبي بكر فإنه لم يتلعثم" (٢). أي ما تردد ولا تروّى لأنه رأى أمرًا جليًا عظيمًا واضحًا فبادر إليه وسارع.

وقوله: ﴿وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ﴾ هم لا يرون ذلك لأنهم عمي عن الحق لا يسمعون ولا يبصرون، بل هم في ريبهم يترددون في ظلمات الجهل يعمهون، وهم الأفَّاكون الكاذبون الأقلون الأرذلون، وهم في الآخرة هم الأخسرون.

﴿قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (٢٨)﴾.

يقول تعالى مخبرًا عن نوح ما ردّ على قومه في ذلك: ﴿أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي﴾ أي: على يقين وأمر جليّ ونبوة صادقة، وهي الرحمة العظيمة من الله به وبهم ﴿فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ﴾ أي: خفيت عليكم فلم تهتدوا إليها ولا عرفتم قدرها بل بادرتم إلى تكذيبها وردها، ﴿أَنُلْزِمُكُمُوهَا﴾ أي: نغصبكم بقبولها وأنتم لها كارهون.

﴿وَيَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (٢٩) وَيَاقَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (٣٠)﴾.

يقول لقومه: لا أسألكم على نصحي لكم مالًا، أجرة آخذها منكم، إنما أبتغي الأجر


(١) تقدم تخريجه وصحته في تفسير سورة الأنعام آية ٥٤.
(٢) أخرجه البيهقي من طريق محمد بن إسحاق قال: "حدثني محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحصين التميمي. . ." مرسلًا (دلائل النبوة ٢/ ١٦٤)، وذكره ابن هشام (السيرة النبوية ١/ ٢٦٧)، ولبعضه شاهد أخرجه البخاري من حديث أبي الدرداء : "إن الله بعثني إليكم، فقلتم: كذبتَ، وقال أبو بكر: صدق، وواساني بنفسه وماله. . ." (الصحيح، فضائل الصحابة، باب قول النبي : "لو كنت متخذًا خليلًا. . ." ح ٣٦٦١).