للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (١٠٥)﴾.

يخبر تعالى أنه لا يهدي من أعرض عن ذكره وتغافل عما أنزله على رسوله ولم يكن له قصد إلى الإيمان بما جاء من عند الله، فهذا الجنس من الناس لا يهديهم الله إلى الإيمان بآياته وما أرسل به رسله في الدنيا، ولهم عذاب أليم موجع في الآخرة،

ثم أخبر تعالى أن رسوله ليس بمفترٍ ولا كذَّاب، لأنه إنما يفتري الكذب على الله وعلى رسوله شرار الخلق، ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ من الكفرة والملحدين المعروفين بالكذب عند الناس، والرسول محمد كان أصدق الناس وأبرَّهم وأكملهم علمًا وعملًا وإيمانًا وإيقانًا، معروفًا بالصدق في قومه، لا يشك في ذلك أحد منهم بحيث لا يُدعى بينهم إلا بالأمين محمد ، ولهذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان عن تلك المسائل التي سألها من صفة رسول الله كان فيما قال له: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا، فقال هرقل: فما كان ليدع الكذب على الناس ويذهب فيكذب على الله ﷿ (١).

﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٠٦) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (١٠٧) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (١٠٨) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (١٠٩)﴾.

أخبر تعالى عمن كفر به بعد الإيمان والتبصر، وشرح صدره بالكفر واطمأن به، أنه قد غضب عليه لعلمهم بالإيمان ثم عدولهم عنه، وأن لهم عذابًا عظيمًا في الدار الآخرة، لأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة، فأقدموا على ما أقدموا عليه من الرِّدة لأجل الدنيا، ولم يهد الله قلوبهم ويثبتهم على الدين الحق، فطبع على قلوبهم، فهم لا يعقلون بها شيئًا ينفعهم، وختم على سمعهم وأبصارهم فلا ينتفعون بها، ولا أغنت عنهم شيئًا فهم غافلون عما يراد بهم.

﴿لَا جَرَمَ﴾ أي: لا بدّ ولا عجب أن من هذه صفته ﴿أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ أي: الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة - وأما قوله: ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾ فهو استثناء ممن كفر بلسانه ووافق المشركين بلفظه مكرهًا لما ناله من ضرب وأذى، وقلبه يأبى ما يقول، وهو مطمئن بالإيمان بالله ورسوله.

وقد روى العوفي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر حين عذبه المشركون حتى يكفر بمحمد ، فوافقهم على ذلك مكرهًا، وجاء معتذرًا إلى النبي ، فأنزل الله هذه الآية (٢). وهكذا قال الشعبي وقتادة وأبو مالك (٣).


(١) أخرجه الشيخان مطولًا (صحيح البخاري، كتاب بدء الوحي ح ٦؛ وصحيح مسلم، الجهاد، باب كتاب النبي إلى هرقل ح ١٧٧٣).
(٢) أخرجه الطبري بسند ضعيف من طريق العوفي به، ويتقوى بما يليه.
(٣) قول الشعبي أخرجه ابن أبي شيبة عن جرير عن مغيرة عنه (المصنف ١٣/ ٤٩)، وسنده حسن، وأخرجه =