للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

إياه حتى يجعل بينه وبينهم سدًا، فقال ذو القرنين بعفة وديانة وصلاح وقصد للخير: ﴿مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ﴾ أي: إن الذي أعطاني الله من الملك والتمكين خير لي من الذي تجمعونه كما قال سليمان : ﴿أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ﴾ [النمل: ٣٦] وهكذا قال ذو القرنين: الذي أنا فيه خير من الذي تبذلونه ولكن ساعدوني بقوة؛ أي بعملكم وآلات البناء ﴿أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (٩٥)

﴿آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ﴾ والزبر: جمع زبرة، وهي القطعة منه، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة (١)، وهي كاللبنة يقال: كل لبنة زنة قنطار بالدمشقي أو تزيد عليه ﴿حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ﴾ أي: وضع بعضه على بعض من الأساس حتى إذا حاذى به رؤوس الجبلين طولًا وعرضًا، واختلفوا في مساحة عرضه وطوله على أقوال ﴿قَالَ انْفُخُوا﴾ أي: أجج عليه النار حتى صار كله نارًا ﴿قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا﴾ قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك وقتادة والسدي هو النحاس (٢): زاد بعضهم المذاب (٣)، ويستشهد بقوله تعالى: ﴿وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ﴾ [سبأ: ١٢] ولهذا يشبه بالبرد المحبر.

قال ابن جرير: حدثنا بشر، عن يزيد، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن رجلًا قال: يا رسول الله قد رأيت سد يأجوج ومأجوج قال: "انعته لي" قال: كالبرد المحبر (٤)، طريقة سوداء وطريقة حمراء قال: "قد رأيته" (٥)، هذا حديث مرسل.

وقد بعث الخليفة الواثق في دولته أحد أمرائه وجهز معه جيشًا سرية لينظروا إلى السد ويعاينوه وينعتوه له إذا رجعوا، فتوصلوا من هناك إلى بلاد ومن ملك إلى ملك حتى وصلوا إليه ورأوا بناءه من الحديد ومن النحاس، وذكروا أنهم رأوا فيه بابًا عظيمًا، وعليه أقفال عظيمة، ورأوا بقية اللبن والعمل في برج هناك، وأن عنده حرسًا من الملوك المتاخمة له، وأنه عالٍ منيف شاهق لا يستطاع ولا ما حوله من الجبال، ثم رجعوا إلى بلادهم، وكانت غيبتهم أكثر من سنتين وشاهدوا أهوالًا وعجائب. ثم قال الله تعالى:

﴿فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (٩٧) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (٩٩)﴾.

يقول تعالى مخبرًا عن يأجوج ومأجوج أنهم ما قدروا على أن يصعدوا من فوق هذا السد، ولا قدروا على نقبه من أسفله، ولما كان الظهور عليه أسهل من نقبه قابل كلًّا بما يناسبه فقال:


(١) قول ابن عباس أخرجه الطبري بسند ثابت من طريق ابن أبي طلحة عنه، وقول مجاهد أخرجه الطبري بسند ضعيف من طريق ابن يحيى القتات عنه، ويتقوى بسابقه ولاحقه، وقول قتادة أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عن معمر عنه.
(٢) قول ابن عباس أخرجه الطبري بسند ضعيف من طريق عطية العوفي عنه، ويتقوى بما يليه، فقول مجاهد أخرجه آدم بن إياس والطبري بسند صحيح من طريق ابن أبي نجيح عنه، وقول الضحاك أخرجه البستي بسند حسن من طريق عبيد بن سليمان عنه، وقول قتادة أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عن معمر عن قتادة.
(٣) ذكره معمر بن المثنى (مجاز القرآن ١/ ٤١٥).
(٤) أي: الثوب الملون.
(٥) أخرجه الطبري بسنده ومتنه، وهو مرسل كما قال.