للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

مريم، فقال: قد علمت أن التقيَّ ذو نُهيةٍ حين قالت: ﴿إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ﴾ (١)؛ أي: فقال لها الملك مجيبًا لها ومزيلًا لما حصل عندها من الخوف على نفسها: لست مما تظنين ولكني رسول ربك، أي بعثني الله إليك، ويقال: إنها لما ذكرت الرحمن انتفض جبريل فرقًا وعاد إلى هيئته وقال: ﴿قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا﴾ هكذا قرأ أبو عمرو بن العلاء أحد مشهوري القراء، وقرأ الآخرون ﴿لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا﴾ وكلا القراءتين له وجه حسن (٢) ومعنى صحيح، وكل تستلزم الأخرى ﴿قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ﴾ أي: فتعجبت مريم من هذا وقالت: كيف يكون لي غلام؟ أي على أي صفة يوجد هذا الغلام مني، ولست بذات زوج، ولا يتصور مني الفجور، ولهذا قالت: ﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا﴾ والبغي: هي الزانية، ولهذا جاء في الحديث نهي عن مهر البغي (٣).

﴿قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ أي: فقال لها الملك مجيبًا لها عما سألت: إن الله قد قال: إنه سيوجد منك غلامًا وإن لم يكن لك بعل، ولا توجد منك فاحشة، فإنه على ما يشاء قادر، ولهذا قال: ﴿وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ﴾ أي: دلالة وعلامة للناس على قدرة بارئهم وخالقهم الذي نوع في خلقهم، فخلق أباهم آدم من غير ذكر ولا أنثى، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق بقية الذرية من ذكر وأنثى إلا عيسى، فإنه أوجده من أنثى بلا ذكر، فتمت القسمة الرباعية الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه فلا إله غيره ولا رب سواه.

وقوله: ﴿وَرَحْمَةً مِنَّا﴾ أي: ونجعل هذا الغلام رحمة من الله ونبيًا من الأنبياء، يدعو إلى عبادة الله تعالى وتوحيده، كما قال تعالى في الآية الأخرى: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦)[آل عمران] أي: يدعو إلى عبادة ربه في مهده وكهولته.

قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم دُحيم، حدثنا مروان، حدثنا العلاء بن الحارث الكوفي، عن مجاهد: قال: قالت مريم : كنت إذا خلوت حدثني عيسى وكلمني وهو في بطني، وإذا كنت مع الناس سبّح في بطني وكبّر (٤).

وقوله: ﴿وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا﴾ يحتمل أن هذا من تمام كلام جبريل لمريم، يخبرها أن هذا أمر مقدر في علم الله تعالى وقدرته ومشيئته، ويحتمل أن يكون من خبر الله تعالى لرسوله محمد وأنه كنى بهذا عن النفخ في فرجها، كما قال تعالى: ﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ


(١) أخرجه الطبري بسنده ومتنه، وسنده صحيح، وأخرجه البخاري تعليقًا، ووصله عبد بن حميد في تفسيره من طريق المسعودي عن عاصم به (تغليق التعليق ٤/ ٣٧).
(٢) وكلتاهما متواترتان.
(٣) أخرجه الشيخان من حديث أبي مسعود الأنصاري: نهى رسول الله عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن (صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب ثمن الكلب ح ٢٢٣٧، وصحيح مسلم، المساقاة، باب تحريم ثمن الكلب ح ١٥٦٧).
(٤) وسنده مرسل، وعليه أمارات الإسرائيليات.