يقول تعالى منكرًا على المشركين في عدم تفهمهم للقرآن العظيم وتدبرهم له وإعراضهم عنه، مع أنهم قد خصوا بهذا الكتاب الذي لم ينزل اللَّه على رسول أكمل منه ولا أشرف، لاسيما آباؤهم الذين ماتوا في الجاهلية حيث لم يبلغهم كتاب ولا أتاهم نذير، فكان اللائق بهؤلاء أن يقابلوا النعمة التي أسداها اللَّه عليهم بقبولها والقيام بشكرها وتفهمها والعمل بمقتضاها آناء الليل وأطراف النهار، كما فعله النجباء منهم ممن أسلم واتبع الرسول ﷺ ورضي عنهم.
وقال قتادة: ﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ﴾ إذ والله يجدون في القرآن زاجرًا عن معصية اللَّه لو تدبره القوم وعقلوه ولكنهم أخذوا بما تشابه منه فهلكوا عند ذلك.
ثم قال منكرًا على الكافرين من قريش: ﴿أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩)﴾ أي: أفهم لا يعرفون محمدًا وصدقه وأمانته وصيانته التي نشأ بها فيهم؛ أي أفيقدرون على إنكار ذلك والمباهتة فيه، ولهذا قال جعفر بن أبي طالب ﵁ للنجاشي ملك الحبشة: أيها الملك إن اللَّه بعث فينا رسولًا نعرف نسبه وصدقه وأمانته، وهكذا قال المغيرة بن شعبة لنائب كسرى حين بارزهم، وكذلك قال أبو سفيان صخر بن حرب لملك الروم هرقل حين سأله وأصحابه عن صفات النَّبِيّ ﷺ ونسبه وصدقه وأمانته، وكانوا بعد كفارًا لم يسلموا، ومع هذا لم يمكنهم إلا الصدق فاعترفوا بذلك.
وقوله: ﴿أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ﴾ يحكي قول المشركين عن النَّبِيّ ﷺ أنه تقول القرآن؛ أي افتراه من عنده أو أن به جنونًا لا يدري ما يقول، وأخبر عنهم أن قلوبهم لا تؤمن به وهم يعلمون بطلان ما يقولونه في القرآن فإنه قد أتاهم من كلام اللَّه ما لا يطاق ولا يدافع وقد تحداهم وجميع أهل الأرض أن يأتوا بمثله إن استطاعوا ولا يستطيعون أبد الآبدين، ولهذا قال: ﴿بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ﴾ يحتمل أن تكون هذه جملة حالية؛ أي في حالة كراهة أكثرهم للحق، ويحتمل أن تكون خبرية مستأنفة، والله أعلم.
وقال قتادة: ذُكرَ لنا أن نبي اللَّه ﷺ لقي رجلًا فقال له: "أسلم" فقال الرجل: إنك لتدعوني إلى أمر أنا له كاره، فقال نبي اللَّه ﷺ:"وإن كنت كارهًا". وذكر لنا أنه لقي رجلًا فقال له:"أسلم" فتصعده ذلك، وكبَّر عليه، فقال له نبي الله ﷺ:"أرأيت لو كنت في طريق وعر وعث، فلقيت رجلًا تعرف وجهه وتعرف نسبه، فدعاك إلى طريق واسع سهل، أكنت تتبعه؟ " قال: نعم. قال:"فوالذي نفس محمد بيده إنك لفي أوعر من ذلك الطريق لو قد كنت عليه، وإني لأدعوك لأسهل من ذلك لو دعيت إليه"، وذُكر لنا أن نبي الله ﷺ لقي رجلًا فقال له:"أسلم" فتصعده ذلك، فقال له نبي الله ﷺ:"أرأيت لو كان فتيكَ أحدهما إذا حدثك صدقك، وإذا ائتمنته أدّى إليك، أهو أحب إليك أم فتاك الذي إذا حدثك كذلك وإذا ائتمنته خانك؟ " قال: بل فتاي الذي