للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وقد ذكر محمد بن إسحاق ومحمد بن سعد في الطبقات، والزبير بن بكار في كتاب "الفكاهة" أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، استعمل النعمان بن عدي بن نضلة على ميسان من أرض البصرة، وكان يقول الشعر، فقال:

ألا هل أتى الحسناء أنَّ حليلها … بميسان يسقي في زجاج وحنتم (١)

إذا شئت غنتني دهاقين قرية … ورقَّاصة تحدو على كل منسم

فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني … ولا تسقني بالأصغر المتثلم

لعل أمير المؤمنين يسوؤه … تنادمنا بالجوسق (٢) المتهدم

فلما بلغ ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب قال: إي والله إنه ليسوؤني ذلك، ومن لقيه فليخبره أني قد عزلته، وكتب إليه عمر بسم الله الرحمن الرحيم ﴿حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣)[غافر]-أما بعد- قد بلغني قولك:

لعل أمير المؤمنين يسوؤه … تنادمنا بالجوسق المتهدم

وأيمُ الله إنه ليسوؤني وقد عزلتك. فلما قدم على عمر بكته بهذا الشعر، فقال: والله يا أمير المؤمنين ما شربتها قط، وما ذاك الشعر إلا شيء طفح على لساني. فقال عمر: أظن ذلك، ولكن والله لا تعمل لي عملًا أبدًا وقد قلت ما قلت (٣).

فلم يذكر أنه حده على الشراب، وقد ضمنه شعره، لأنهم يقولون ما لا يفعلون، ولكنه ذمَّه عمر ولامه على ذلك وعزله به، ولهذا جاء في الحديث "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا يريه خير له من أن يمتلئ شعرًا" (٤) والمراد من هذا أن الرسول الذي أنزل عليه هذا القرآن ليس بكاهن ولا بشاعر، لأن حاله مناف لحالهم من وجوه ظاهرة، كما قال تعالى: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩)[يس]، وقال تعالى: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٣)[الحاقة]، وهكذا قال ههنا: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥)[الشعراء] إلى أن قال: ﴿وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (٢١٠) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (٢١١) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢)[الشعراء] إلى أن قال: ﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (٢٢٣) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (٢٢٦)﴾.

وقوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ قال محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي الحسن سالم البراد مولى تميم الداري قال: لما نزلت ﴿وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ


(١) جرار خُضُر تضرب إلى حمرة.
(٢) أي: الحصن أو شبيه الحصن.
(٣) هذه القصة والأبيات في الطبقات الكبرى لابن سعد (٤/ ١٤٠).
(٤) أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة (الصحيح، كتاب الشعر ح ٢٢٥٧).