للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

طغت وأشرت وكفرت نعمة الله فيما أنعم به عليهم من الأرزاق، كما قال في الآية الأخرى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (١١٣)[النحل]، ولهذا قال تعالى: ﴿فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا﴾ أي: دثرت ديارهم فلا ترى إلا مساكنهم.

وقوله تعالى: ﴿وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ﴾ أي: رجعت خرابًا ليس فيها أحد.

وقد ذكر ابن أبي حاتم ههنا عن ابن مسعود أنه سمع كعبًا يقول لعمر: إن سليمان قال للهامة -يعني البومة-: ما لك لا تأكلين الزرع؟ قالت: لأنه أخرج آدم من الجنة بسببه، قال: فما لك لا تشربين الماء؟ قالت: لأن الله تعالى أغرق قوم نوح به. قال: فما لك لا تأوين إلا إلى الخراب؟ قالت: لأنه ميراث الله تعالى، ثم تلا: ﴿وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ﴾ (١).

ثم قال تعالى مخبرًا عن عدله وأنه لا يهلك أحدًا ظالمًا له، وإنما يهلك من أهلك بعد قيام الحجة عليهم، ولهذا قال: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا﴾، وهي مكة ﴿رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا﴾ فيه دلالة على أن النبي الأمي وهو محمد المبعوث من أم القرى رسول إلى جميع القرى من عرب وأعجام، كما قال تعالى: ﴿لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ [الشورى: ٧]، وقال تعالى: ﴿قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ [الأعراف: ١٥٨]، وقال: ﴿لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ [الأنعام: ١٩]، وقال: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ﴾ [هود: ١٧]، وتمام الدليل قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (٥٨)[الإسراء] الآية، فأخبر تعالى أنه سيهلك كل قرية قبل يوم القيامة، وقد قال تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: ١٥] فجعل تعالى بعثة النبي الأمي شاملة لجميع القرى؛ لأنه رسول إلى أمها وأصلها التي ترجع إليها. وثبت في الصحيحين عنه صلوات الله وسلامه علي أنه قال: "بعثت إلى الأحمر والأسود" (٢)، ولهذا ختم به النبوة والرسالة، فلا نبيّ من بعده ولا رسول؛ بل شرعه باقٍ بقاء الليل والنهار إلى يوم القيامة.

وقيل: المراد بقوله: ﴿حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا﴾ أي: أصلها وعظيمتها كأمهات الرساتيق والأقاليم، حكاه الزمخشري وابن الجوزي وغيرهما، وليس ببعيد.

﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٦٠) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٦١)﴾.

يقول تعالى مخبرًا عن حقارة الدنيا، وما فيها من الزينة الدنيئة، والزهرة الفانية بالنسبة إلى ما


(١) أخرجه ابن أبي حاتم بسند معلق وفيه أيضًا رجل ضعيف وهو مالك بن سليمان (ينظر ميزان الاعتدال ٣/ ٤٢٧).
(٢) تقدم تخريجه في تفسير سورة آل عمران آية ٢٠.