للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

فوالله لولا أن يأثروا عليَّ الكذب لكذبت، فسأله هرقل عن نسبه وصفته، فكان فيما سأله أن قال: فهل يغدر؟ قال: قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها (١)؛ يعني: بذلك الهدنة التي كانت قد وقعت بين رسول الله وكفار قريش عام الحديبية على وضع الحرب بينهم عشر سنين، فاستدلوا بهذا على أن نصر الروم على فارس كان عام الحديبية، لأن قيصر إنما وفى بنذره بعد الحديبية، والله أعلم.

ولأصحاب القول الأول أن يجيبوا عن هذا بأن بلاده كانت قد خربت وتشعثت، فما تمكن من وفاء نذره حتى أصلح ما ينبغي له إصلاحه وتفقد بلاده، ثم بعد أربع سنين من نصرته وفى بنذره، والله أعلم، والأمر في هذا سهل قريب، إلا أنه لما انتصرت فارس على الروم ساء ذلك المؤمنين، فلما انتصرت الروم على فارس، فرح المؤمنون بذلك، لأن الروم أهل كتاب في الجملة، فهم أقرب إلى المؤمنين من المجوس، كما قال تعالى: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣)[المائدة]. وقال تعالى ههنا: ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥)﴾.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا صفوان، حدثنا الوليد، حدثني أسيد الكلابي قال: سمعت العلاء بن الزبير الكلابي يحدث عن أبيه قال: رأيت غلبة فارس الروم، ثم رأيت غلبة الروم فارس ثم رأيت غلبة المسلمين فارس، والروم كل ذلك في خمس عشرة سنة (٢).

وقوله تعالى: ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ أي: في انتصاره وانتقامه من أعدائه ﴿الرَّحِيمُ﴾ بعباده المؤمنين.

وقوله تعالى: ﴿وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ﴾ أي: هذا الذي أخبرناك به يا محمد من أنّا سننصر الروم على فارس وعد من الله حق، وخبر صدق لا يخلف ولابدّ من كونه ووقوعه، لأن الله قد جرت سنته أن ينصر أقرب الطائفتين المقتتلين إلى الحق، ويجعل لها العاقبة ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ أي: بحكم الله في كونه، وأفعاله المحكمة الجارية على وفق العدل.

وقوله تعالى: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (٧)﴾ أي: أكثر الناس ليس لهم علم إلا بالدنيا وأكسابها وشؤونها وما فيها، فهم حذاق أذكياء في تحصيلها ووجوه مكاسبها، وهم غافلون عما ينفعهم في الدار الآخرة كأن أحدهم مغفل لا ذهن له ولا فكرة.

قال الحسن البصري: والله لبلغ من أحدهم بدنياه أن يقلب الدرهم على ظفره، فيخبرك بوزنه وما يحسن أن يصلي (٣).


(١) أخرجه البخاري من حديث ابن عباس (الصحيح، بدء الوحي باب رقم ٦ ح ٧).
(٢) في متنه نكارة إذ خالف ما تقدم من الروايات الصحيحة بان البضع ما بين ثلاث إلى تسع.
(٣) عزاه السيوطي في الدر المنثور إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.