للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

واللغوب كل منهما يستعمل في التعب، وكأن المراد بنفي هذا وهذا عنهم، أنهم لا تعب على أبدانهم ولا أرواحهم، والله أعلم، فمن ذلك أنهم كانوا يدئبون أنفسهم في العبادة في الدنيا، فسقط عنهم التكليف بدخولها، وصاروا في راحة دائمة مستمرة قال الله : ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (٢٤)[الحاقة].

﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧)﴾.

لما ذكر حال السعداء، شرع في بيان مآل الأشقياء، فقال: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا﴾، كما قال تعالى: ﴿لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى﴾ [طه: ٧٤]، وثبت في صحيح مسلم أن رسول الله قال: "أما أهل النار الذين هم أهلها، فلا يموتون فيها ولا يحيون" (١) وقال تعالى: ﴿وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (٧٧)[الزخرف]، فهم في حالهم ذلك يرون موتهم راحة لهم، ولكن لا سبيل إلى ذلك، قال الله تعالى: ﴿لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا﴾، كما قال ﷿: ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (٧٤) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٥)[الزخرف]، وقال: ﴿كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا﴾ [الإسراء: ٩٧] ﴿فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (٣٠)[النبأ]، ثم قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ﴾ أي: هذا جزاء كل من كفر بربه وكذب الحق.

وقوله جلَّت عظمته: ﴿وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا﴾ أي: ينادون فيها يجأرون إلى الله ﷿ بأصواتهم ﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ﴾ أي: يسألون الرجعة إلى الدنيا ليعملوا غير عملهم الأول، وقد علم الربُّ أنه لو ردَّهم إلى الدار الدنيا لعادوا لما نهوا عنه، وإنهم لكاذبون فلهذا لا يجيبهم إلى سؤالهم، كما قال تعالى مخبرًا عنهم في قولهم: ﴿فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا﴾ [غافر: ١١، ١٢] أي: لا يجيبكم إلى ذلك لأنكم كنتم كذلك، ولو رددتم لعدتم إلى ما نهيتم عنه، ولهذا قال ههنا: ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ﴾ أي: أو ما عشتم في الدنيا أعمارًا لو كنتم ممن ينتفع بالحق لانتفعتم به في مدة عمركم؟

وقد اختلف المفسرون في مقدار العمر المراد ههنا، فروي عن علي بن الحسين زين العابدين أنه قال: مقدار سبع عشرة سنة.

وقال قتادة: اعلموا أن طول العمر حجة، فنعوذ بالله أن نعير بطول العمر قد نزلت هذه الآية ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ﴾ وإن فيهم لابن ثماني عشرة سنة (٢)، وكذا قال أبو غالب الشيباني.


(١) صحيح مسلم، الإيمان، باب إثبات الشفاعة واخراج الموحدين من النار (ح ١٨٥).
(٢) نسبه السيوطي إلى عبد بن حميد.