للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

المنزلة الأولى بعدما استشار جبريل ، فقال له: تواضع. فاختار المنزلة الأولى لأنها أرفع قدرًا عند الله وأعلى منزلة في المعاد، وإن كانت المنزلة الثانية وهي النبوة مع الملك عظيمة أيضًا في الدنيا والآخرة، ولهذا لما ذكر تعالى ما أعطى سليمان في الدنيا نبه تعالى على أنه ذو حظ عند الله يوم القيامة أيضًا فقال تعالى: ﴿وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠)﴾ أي: في الدنيا والآخرة.

﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (٤٢) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (٤٣) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤)﴾.

يذكر عبده ورسوله أيوب وما كان ابتلاه تعالى به من الضر في جسده وماله وولده حتى لم يبق في جسده مغرز إبرة سليمًا سوى قلبه، ولم يبق له من الدنيا شيء يستعين به على مرضه وما هو فيه غير أن زوجته حفظت وده لإيمانها بالله تعالى ورسوله، فكانت تخدم الناس بالأجرة وتطعمه وتخدمه نحوًا من ثماني عشرة سنة، وقد كان قبل ذلك في مال جزيل وأولاد وسعة طائلة في الدنيا، فسلب جميع ذلك حتى آلَ به الحال إلى أن أُلقي على مزبلة من مزابل البلدة (١) هذه المدة بكمالها ورفضه القريب والبعيد سوى زوجته فإنها كانت لا تفارقه صباحًا ومساءً إلا بسبب خدمة الناس ثم تعود إليه قريبًا، فلما طال المطال، واشتد الحال، وانتهى القدر، وتم الأجل المقدر تضرع إلى ربِّ العالمين وإله المرسلين فقال: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٣].

وفي هذه الآية الكريمة قال: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (٤١)﴾ قيل: بنصب في بدني وعذاب في مالي وولدي، فعند ذلك استجاب له أرحم الراحمين وأمره أن يقوم من مقامه وأن يركض الأرض برجله، ففعل فأنبع الله تعالى عينًا وأمره أن يغتسل منها، فأذهبت جميع ما كان في بدنه من الأذى، ثم أمره فضرب الأرض في مكان آخر فأنبع له عينًا أخرى وأمره أن يشرب منها، فأذهبت جميع ما كان في باطنه من السوء وتكاملت العافية ظاهرًا وباطنًا، ولهذا قال : ﴿ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (٤٢)﴾.

قال ابن جرير وابن أبي حاتم جميعًا: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني نافع بن يزيد، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك قال: إن رسول الله قال: "إن نبي الله أيوب لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين كانا من أخصِّ إخوانه به كانا يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدهما لصاحبه: تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنبًا ما أذنبه أحد من العالمين. قال له صاحبه: وما ذاك؟ قال: منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله فيكشف ما به فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له، فقال أيوب : لا أدري ما تقول غير أن الله يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان


(١) هذا الكلام لا يليق بمقام نبي الله تعالى داود ، وهو من الإسرائيليات.