للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (١٧) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (٢٢)﴾.

يخبر تعالى عن قدرته على الإنسان بأنه خالقه وعلمه محيط بجميع أموره، حتى إنه تعالى يعلم ما توسوس به نفوس بني آدم من الخير والشر. وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله أنه قال: "إن الله تعالى تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تقل أو تعمل" (١).

وقوله: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ يعني: ملائكته تعالى أقرب إلى الإنسان من حبل وريده إليه، ومن تأوله على العلم فإنما فرَّ لئلا يلزم حلول أو اتحاد وهما منفيان بالإجماع، تعالى الله وتقدس، ولكن اللفظ لا يقتضيه فإنه لم يقل: وأنا أقرب إليه من حبل الوريد وإنما قال: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ كما قال المحتضر: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (٨٥)[الواقعة] يعني: ملائكته وكما قال: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (٩)[الحجر] فالملائكة نزلت بالذكر وهو القرآن بإذن الله ﷿، وكذلك الملائكة أقرب إلى الإنسان من حبل وريده إليه [بتقدير] (٢) الله لهم على ذلك. فللملك لمة من الإنسان كما أن للشيطان لمة، وكذلك الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم (٣)، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق ولهذا قال تعالى ههنا: ﴿إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ﴾ يعني: الملكين اللذين يكتبان عمل الإنسان.

﴿عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ﴾ أي: مترصد

﴿مَا يَلْفِظُ﴾ أي: ابن آدم ﴿مِنْ قَوْلٍ﴾ أي: ما يتكلم بكلمة ﴿إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ أي: إلا ولها من يرقبها معد لذلك يكتبها لا يترك كلمة ولا حركة كما قال تعالى: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (١٠) كِرَامًا كَاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (١٢)[الانفطار].

وقد اختلف العلماء هل يكتب الملك كل شيء من الكلام. وهو قول الحسن وقتادة (٤)، أو إنما يكتب ما فيه ثواب وعقاب كما هو قول ابن عباس (٥)، على قولين، وظاهر الآية الأول لعموم قوله: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨)﴾.

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا محمد بن عمرو بن علقمة الليثي، عن أبيه، عن جده علقمة، عن بلال بن الحارث المزني قال: قال رسول الله : "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله عليه بها سخطه إلى


(١) تقدم تخريجه في تفسير سورة البقرة آية ٢٨٤.
(٢) كذا في (مح)، وفي الأصل وحم: "باقتدار".
(٣) تقدم تخريجه في تفسير سورة البقرة آية ١٨٧.
(٤) أخرجه الطبري بسند صحيح من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، وأخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عن معمر عن الحسن.
(٥) أخرجه الطبري بسند ضعيف من طريق العوفي عن ابن عباس بلفظ: "يحفظان عليه عمله ويكتبان أثره".