للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وقوله تعالى: ﴿أَوْ أَدْنَى﴾ قد تقدم أن هذه الصيغة تستعمل في اللغة لإثبات المخبر عنه ونفي ما زاد عليه كقوله تعالى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ [البقرة: ٧٤] أي: ما هي بألين من الحجارة، بل هي مثلها أو تزيد عليها في الشدة والقسوة وكذا قوله: ﴿يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً﴾ [النساء: ٧٧] وقوله: ﴿وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧)[الصافات] أي: ليسوا أقل منها بل هم مائة ألف حقيقة أو يزيدون عليها. فهذا تحقيق للمخبر به لا شك ولا تردد فإن هذا ممتنع وهكذا ههنا هذه الآية ﴿فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (٩)﴾ وهذا الذي قلناه من أن هذا المقترب الداني الذي صار بينه وبين محمد صلى الله تعالى عليه وسلم إنما هو جبريل ، وهو قول أُم المؤمنين عائشة وابن مسعود وأبي ذرٍّ وأبي هريرة، كما سنورد أحاديثهم قريبًا إن شاء الله تعالى.

وروى مسلم في صحيحه عن ابن عباس أنه قال: رأى محمد ربه بفؤاده مرتين فجعل هذه إحداهما، وجاء في حديث شريك بن أبي نمر، عن أنس في حديث الإسراء: ثم دنا الجبار ربُّ العزة فتدلى (١)، ولهذا قد تكلم كثير من الناس في متن هذه الرواية وذكروا أشياء فيها من الغرابة، فإن صحَّ فهو محمول على وقت آخر وقصة أخرى، لا أنها تفسير لهذه الآية، فإن هذه كانت ورسول الله في الأرض لا ليلة الإسراء، ولهذا قال بعده: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (١٤)﴾ فهذه هي ليلة الإسراء والأولى كانت في الأرض.

وقد قال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا سليمان الشيباني، حدثنا زر بن حبيش قال: قال عبد الله بن مسعود في هذه الآية ﴿فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (٩)﴾ قال: قال رسول الله : "رأيت جبريل له ستمائة جناح" (٢).

وقال ابن وهب: حدثنا ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة قالت: كان أول شأن رسول الله أنه رأى في منامه جبريل بأجياد، ثم إنه خرج ليقضي حاجته فصرخ به جبريل: يا محمد يا محمد! فنظر رسول الله يمينًا وشمالًا فلم يرَ أحدًا ثلاثًا، ثم رفع بصره فإذا هو ثاني إحدى رجليه مع الأخرى على أفق السماء فقال: يا محمد جبريل يسكنه، فهرب النبي حتى دخل في الناس، فنظر فلم يرَ شيئًا، ثم خرج من الناس ثم نظر فرآه فدخل في الناس فلم يرَ شيئًا، ثم خرج فنظر فرآه، فذلك قول الله ﷿ ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (١)﴾ إلى قوله: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (٨)﴾ يعني: جبريل إلى محمد عليهما الصلاة والسلام ﴿فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (٩)﴾ ويقولون: ألقاب نصف أصبع، وقال بعضهم: ذراعين كان بينهما، رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث ابن وهب به (٣). وفي حديث الزهري، عن أبي سلمة، عن جابر شاهدًا لهذا. [وروى


(١) تقدم تخريجه في تفسير سورة الإسراء آية ١، وعلة هذا الحديث في وهم شريك بن أبي نمر وقد أحصى الحافظ ابن حجر أوهامه في حديث الإسراء والمعراج (ينظر: فتح الباري ١٣/ ٤٨٥).
(٢) أخرجه الطبري بسنده ومتنه، وله شاهد في الصحيحين من حديث جابر كما سيأتي بعد الروايتين التاليتين.
(٣) أخرجه الطبري عن ابن وكيع عن ابن وهب به، وفي سنده ابن وكيع وهو سفيان، وابن لهيعة وكلاهما فيهما مقال.