للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

ولهذا قال في هذه الآية: ﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ أي: بالحق والعدل وهو اتباع الرسل فيما أخبروا به وطاعتهم فيما أمروا به، فإن الذي جاءوا به هو الحق الذي ليس وراءه حق كما قال: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا﴾ [الأنعام: ١١٥] أي: صدقًا في الأخبار وعدلًا في الأوامر والنواهي، ولهذا يقول المؤمنون إذا تبوأوا غرف الجنات، والمنازل العاليات، والسرر المصفوفات: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ﴾ [الأعراف: ٤٣].

وقوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ﴾ أي: وجعلنا الحديد رادعًا لمن أبى الحق وعانده بعد قيام الحجة عليه، ولهذا أقام رسول الله بمكة بعد النبوة ثلاث عشرة سنة توحى إليه السور المكية، وكلها جدال مع المشركين وبيان وإيضاح للتوحيد وبينات ودلالات، فلما قامت الحجة على من خالف، شرع الله الهجرة وأمرهم بالقتال بالسيوف وضرب الرقاب والهام لمن خالف القرآن وكذب به وعانده، وقد روى الإمام أحمد وأبو داود من حديث عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، عن حسان بن عطية، عن أبي المنيب الجرشي الشامي، عن ابن عمر قال: قال رسول الله : "بُعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو منهم" (١). ولهذا قال تعالى: ﴿فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ﴾ يعني: السلاح كالسيوف والحراب والسنان والنصال والدروع ونحوها ﴿وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ أي: في معايشهم كالسكة والفأس والقدوم والمنشار والإزميل والمجرفة والآلات التي يستعان بها في الحراثة والحياكة والطبخ والخبز، وما لا قوام للناس بدونه وغير ذلك.

قال علباء بن أحمد: عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ثلاثة أشياء نزلت مع آدم: السندان والكلبتان والميقعة يعني: المطرقة، ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم (٢)، وقوله تعالى: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ﴾ أي: من نيته في حمل السلاح نصرة الله ورسوله ﴿إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ أي: هو قوي عزيز ينصر من نصره من غير احتياج منه إلى الناس، وإنما شرع الجهاد ليبلو بعضكم ببعض.

﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (٢٦) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (٢٧)﴾.

يخبر تعالى أنه منذ بعث نوحًا لم يرسل بعده رسولًا ولا نبيًا إلا من ذريته وكذلك إبراهيم خليل الرحمن، لم ينزل من السماء كتابًا ولا أرسل رسولًا ولا أوحى إلى بشر من


(١) تقدم تخريجه في تفسير سورة البقرة آية ١٠٤.
(٢) أخرجه الطبري من طريق علباء بن أحمر به، وسنده ضعيف لأن فيه ابن حميد وهو محمد بن حميد الرازي: ضعيف.