للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١٢) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (١٣) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٤) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (١٥)﴾.

يقول تعالى مخبرًا عمّن يخاف مقام ربه فيما بينه وبينه إذا كان غائبًا عن الناس فينكف عن المعاصي ويقوم بالطاعات حيث لا يراه أحد إلا الله تعالى بأن له مغفرة وأجر كبير أن تكفَّر عنه ذنوبه ويجازى بالثواب الجزيل كما ثبت في الصحيحين "سبعة يظلهم الله تعالى في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، فذكر منهم رجلًا دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجلًا تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه" (١).

وقال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا طالوت بن عباد، حدثنا الحارث بن عُبيد، عن ثابت، عن أنس قال: قالوا: يا رسول الله إنا نكون عندك على حال فإذا فارقناك كنا على غيره! قال: "كيف أنتم وربكم؟ " قالوا: الله ربنا في السر والعلانية. قال: "ليس ذلكم النفاق". قال البزار: لم يروه عن ثابت إلا الحارث بن عُبيد فيما نعلمه (٢).

ثم قال تعالى منبهًا على أنه مطلع على الضمائر والسرائر: ﴿وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (١٣)﴾ أي: بما يخطر في القلوب

﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ﴾ أي: ألا يعلم الخالق وقيل: معناه ألا يعلم الله مخلوقه. والأول أولى لقوله: ﴿وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾.

ثم ذكر نعمته على خلقه في تسخيره لهم الأرض وتذليله إياها لهم بأن جعلها قارة ساكنة لا تميد ولا تضطرب بما جعل فيها من الجبال، وأنبع فيها من العيون، وسلك من السبل، وهيأ فيها من المنافع ومواضع الزروع والثمار فقال: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا﴾ أي: فسافروا حيث شئتم من أقطارها، وترددوا في أقاليمها وأرجائها في أنواع المكاسب والتجارات، واعلموا أن سعيكم لا يجدي عليكم شيئًا إلا أن ييسره الله لكم ولهذا قال تعالى: ﴿وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ﴾ فالسعي في السبب لا ينافي التوكل كما قال الإمام أحمد: حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا حيوة، أخبرني بكر بن عمرو أنه سمع عبد الله بن هُبيرة يقول أنه سمع أبا تميم الجيِشاني يقول أنه سمع عمر بن الخطاب يقول أنه سمع رسول الله يقول "لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا" (٣). رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث ابن هبيرة. وقال الترمذي: حسن صحيح (٤).


(١) تقدم تخريجه في تفسير سورة البقرة آية ٢٧١.
(٢) أخرجه البزار بسنده ومتنه وتعليقه وقال الحافظ ابن حجر: والحارث له مناكير وإن أخرج له في الصحيح (مختصر زوائد مسند البزار ١/ ٦٦، ٦٧ ح ١٠).
(٣) أخرجه الإمام أحمد بسنده ومتنه (المسند ١/ ٣٣٢ ح ٢٠٥) قال محققوه: إسناده قوي.
(٤) سنن الترمذي، الزهد، باب في التوكل على الله (ح ٢٣٤٥)؛ وسنن ابن ماجه، الزهد، باب التوكل واليقين (ح ٤١٦٤)؛ وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (ح ٣٣٥٩).