للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

العزيز، ولهذا قال الجنُّ: ﴿وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (٩)﴾ أي: من يروم أن يسترق السمع يجد له شهابًا مرصدًا له لا يتخطاه ولا يتعداه بل يمحقه اليوم ويهلكه.

﴿وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (١٠)﴾ أي: ما ندري هذا الأمر الذي قد حدث في السماء، لا ندري أشرُّ أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدًا؟ وهذا من أدبهم في العبارة حيث أسندوا الشرَّ إلى غير فاعل والخير أضافوه إلى الله ﷿.

وقد ورد في الصحيح: "والشرُّ ليس إليك" (١) وقد كانت الكواكب يرمى بها قبل ذلك، ولكن ليس بكثير بل في الأحيان بعد الأحيان، كما في حديث [ابن عباس] (٢): بينما نحن جلوس مع رسول الله إذ رُمي بنجم فاستنار فقال: "ما كنتم تقولون في هذا؟ " فقلنا: كنا نقول يولد عظيم، يموت عظيم فقال: "ليس كذلك، ولكن الله إذا قضى الأمر في السماء" (٣) وذكر تمام الحديث وقد أوردناه في سورة سبأ بتمامه، وهذا هو السبب الذي حملهم على تطلب السبب في ذلك فأخذوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها، فوجدوا رسول الله يقرأ بأصحابه في الصلاة، فعرفوا أن هذا هو الذي حُفظت من أجله السماء، فآمن من آمن منهم وتمَّرد في طغيانه من بقي كما تقدم حديث ابن عباس في ذلك عند قوله في سورة الأحقاف: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ﴾ الآية [٢٩].

ولا شك أنه لما حدث هذا الأمر، وهو كثرة الشهب في السماء والرمي بها، هال ذلك الإنس والجن وانزعجوا له وارتاعوا لذلك، وظنوا أن ذلك لخراب العالم، كما قال السدي: لم تكن السماء تحرس إلا أن يكون في الأرض نبي أو دين لله ظاهر، فكانت الشياطين قبل محمد قد اتخذت المقاعد في السماء الدنيا، يستمعون ما يحدث في السماء من أمر، فلما بعث الله محمدًا نبيًا رسولًا رجموا ليلة من الليالي ففزع لذلك أهل الطائف فقالوا: هلك أهل السماء لما رأوا من شدة النار في السماء واختلاف الشُهب، فجعلوا يعتقون أرقاءهم ويسيبون مواشيهم، فقال لهم عبد ياليل بن عمير: ويحكم يا معشر أهل الطائف أمسكوا عن أموالكم وانظروا إلى معالم النجوم، فإن رأيتموها مستقرة في أمكنتها فلم يهلك أهل السماء، إنما هذا من أجل ابن أبي كبشة يعني: محمدًا ، وإن نظرتم فلم تروها فقد هلك أهل السماء، فنظروا فرأوها فكفُّوا عن أقوالهم وفزعت الشياطين في تلك الليلة، فأتوا إبليس فحدثوه بالذي كان من أمرهم فقال: ائتوني من كل أرض بقبضة من تراب أشمُّها، فأتوه فشمَّ فقال: صاحبكم بمكة، فبعث سبعة نفر من جن نصيبين (٤) فقدموا مكة فوجدوا نبي الله قائمًا يصلي في المسجد الحرام يقرأ القرآن، فدنوا منه حرصًا على القرآن حتى كادت كلاكلهم تصيبه، ثم أسلموا فأنزل الله تعالى أمرهم على رسوله (٥).


(١) اْخرجه مسلم من حديث أمير المؤمنين علي مطولًا. (الصحيح، صلاة المسافرين، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه ح ٧٧١).
(٢) كذا في (ح) و (حم)، وفي الأصل صحف إلى: "العباس".
(٣) تقدم تخريجه في تفسير سورة سبأ آية ٢٣.
(٤) تقع جنوب تركيا وشمال مدينة الموصل في العراق.
(٥) رواية السدي ضعيفه لأنها مرسلة.