للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وقد ذكرنا هذا الفصل مستقصى في أول البعث من "كتاب السيرة" المطول، والله أعلم، ولله الحمد والمنة.

﴿وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (١٢) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (١٣) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (١٤) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (١٥) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (١٧)﴾.

يقول تعالى مخبرًا عن الجن أنهم قالوا مخبرين عن أنفسهم: ﴿وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ﴾ أي: غير ذلك ﴿كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا﴾ أي: طرائق متعددة مختلفة وآراء متفرقة، قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: ﴿كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا﴾ أي: منا المؤمن ومنا الكافر (١).

وقال أحمد بن سليمان النجاد في أماليه: حدثنا أسلم بن سهل بحشل، حدثنا علي بن الحسن بن سليمان وهو: أبو الشعثاء الحضرمي شيخ مسلم، حدثنا أبو معاوية قال: سمعت الأعمش يقول: تروَّح إلينا جني فقلت له: ما أحب الطعام إليكم؟ فقال الأرز، قال: فأتيناهم به، فجعلت أرى اللُّقم ترفع ولا أرى أحدًا، فقلت فيكم من هذه الأهواء التي فينا؟ قال: نعم. فقلت: فما الرافضة فيكم؟ قال: شرُّنا (٢).

عرضت هذا الإسناد على شيخنا الحافظ أبي الحجاج المزي فقال: هذا إسناد صحيح إلى الأعمش.

وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة العباس بن أحمد الدمشقي قال: سمعت بعض الجنِّ وأنا في منزل لي بالليل ينشد:

قلوبٌ بَراها الحبَّ حتى تعلقت … مذاهبها في كل غرب وشارق

تهيم بحب الله والله ربها … معلقة بالله دون الخلائق (٣)

وقوله تعالى: ﴿وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (١٢)﴾ أي: نعلم أن قدرة الله حاكمة علينا وأنا لا نعجزه في الأرض، ولو أمعنا في الهرب فإنه علينا قادر لا يعجزه أحد منا ﴿وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ﴾ يفتخرون بذلك وهو مفخر لهم وشرف رفيع وصفة حسنة.

وقولهم: ﴿فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا﴾ قال ابن عباس وقتادة وغيرهما: فلا يخاف أن ينقص من حسناته أو يحمل عليه غير سيئاته (٤) كما قال تعالى: ﴿فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا﴾ [طه: ١١٢].


(١) أخرجه الطبري بسند ضعيف من طريق العوفي عن ابن عباس، ومعناه صحيح وله شواهد تقويه كالآثار التالية: فقد أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عن معمر عن قتادة، وأخرجه الطبري بسند صحيح من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد، وأخرجه الطبري بسند صحيح من طريق ابن وهب عن ابن زيد.
(٢) سنده صحيح كما قرر الإمام المزي.
(٣) تاريخ دمشق (٨/ ل ٨٨٧).
(٤) أخرجه الطبري بسند ثابت من طريق ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وأخرجه الطبري بسند صحيح من طريق ابن أبي عروبة عن قتادة.