للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

﴿فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ﴾ أي: آمنهم مما خافوا منه ﴿وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً﴾ أي: في وجوههم ﴿وَسُرُورًا﴾ أي: في قلوبهم. قاله الحسن البصري وقتادة وأبو العالية والربيع بن أنس (١). وهذه كقوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩)[عبس]، وذلك أن القلب إذا سر استنار الوجه قال كعب بن مالك في حديثه الطويل: وكان رسول اللَّه إذا سر استنار وجهه حتَّى كأنه فلقة قمر (٢).

وقالت عائشة: "دخل عليَّ رسول اللَّه مسرورًا تبرق أسارير وجهه" الحديث (٣).

وقوله تعالى: ﴿وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا﴾ أي: بسبب صبرهم أعطاهم ونولهم وبوأهم ﴿جَنَّةً وَحَرِيرًا﴾ أي: منزلًا رحبًا وعيشًا رغدًا ولباسًا حسنًا. وروى الحافظ بن عساكر في ترجمة هشام بن سليمان الداراني قال: قرئ علي أبي سليمان الداراني سورة: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ﴾ فلما بلغ القارئ إلى قوله تعالى: ﴿وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (١٢)﴾ قال: بما صبروا على ترك الشهوات في الدنيا، ثم أنشد يقول:

كم قتيل لشهوة وأسير … أف من مشتهي خلاف الجميل

شهوات الإنسان تورثه الذل … وتلقيه في البلاء الطويل (٤)

﴿مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (١٣) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (١٤) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (١٥) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (١٦) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (١٧) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (١٨) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (١٩) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (٢٠) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (٢١) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (٢٢)﴾.

يخبر تعالى عن أهل الجنة وما هم فيه من النعيم المقيم وما أسبغ عليهم من الفضل العميم فقال تعالى: ﴿مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ﴾، وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة الصافات، وذكر الخلاف في الاتكاء هل هو الاضطجاع أو التمرفق أو التربع أو التمكن في الجلوس؟ وأن الأرائك هي السرر تحت الحجال.

وقوله تعالى: ﴿لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا﴾ أي: ليس عندهم حر مزعج ولا برد مؤلم بل هي مزاج واحد دائم سرمدي ﴿لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا﴾ [الكهف: ١٠٨].

﴿وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا﴾ أي: قريبة إليهم أغصانها ﴿وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا﴾ أي: متى تعاطاه دنا القطف إليه وتدلى من أعلى غصنه كأنه سامع طائع كما قال تعالى في الآية الأخرى ﴿وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ﴾ [الرحمن: ٥٤] وقال تعالى: ﴿قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (٢٣)[الحاقة].


(١) أخرجه آدم بن أبي إياس بسند حسن من طريق المبارك بن فضالة عن الحسن؛ وأخرجه الطبري بسند صحيح من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة؛ وأخرجه الطبري بسند صحيح من طريق ابن وهب عن ابن زيد.
(٢) تقدم تخريجه في تفسير سورة التوبة آية ١١٨.
(٣) أخرجه الشيخان (صحيح البخاري، المناقب، باب صفة النَّبِيّ ح ٣٥٥٦)؛ وصحيح مسلم، الرضاع، باب العمل بإلحاف القائف الولد (ح ١٤٥٩).
(٤) ينظر: مختصر تاريخ دمشق لابن منظور ٢٧/ ٨٦.