للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وقد ذكر بعض السلف منهم ابن إسحاق أن هذه السورة هي التي أوحاها جبريل إلى رسول الله حين تبدَّى له في صورته التي خلقه الله عليها، ودنا إليه وتدلى منهبطًا عليه وهو بالأبطح ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (١٠)[النجم] قال: قال له هذه السورة ﴿وَالضُّحَى (١) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (٢)﴾.

قال العوفي، عن ابن عباس: لما نزل على رسول الله القرآن أبطأ عنه جبريل أيامًا فتغير بذلك، فقال المشركون: ودعه ربه وقلاه فأنزل الله ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (٣)(١).

وهذا قسم منه تعالى بالضحى وما جعل فيه من الضياء ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (٢)﴾ أي: سكن فأظلم وادلهم. قاله مجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد وغيرهم (٢)، وذلك دليل ظاهر على قدرة خالق هذا وهذا كما قال تعالى: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (١) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (٢)[الليل] وقال تعالى: ﴿فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦)[الأنعام].

وقوله تعالى: ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ﴾ أي: ما تركك ﴿وَمَا قَلَى﴾ أي: وما أبغضك.

﴿وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (٤)﴾ أي: وللدار الآخرة خير لك من هذه الدار، ولهذا كان رسول الله أزهد الناس في الدنيا وأعظمهم لها اطراحًا كما هو معلوم بالضرورة من سيرته، ولما خُيِّر في آخر عمره بين الخلد في الدنيا إلى آخرها ثم الجنة وبين الصيرورة إلى الله ﷿، اختار ما عند الله على هذه الدنيا الدنية.

قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا المسعودي، عن عمرو بن مرة، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة، عن عبد الله هو: ابن مسعود قال: اضطجع رسول الله على حصير فأثر في جنبه، فلما استيقظ جعلت أمسح جنبه وقلت: يا رسول الله ألا آذنتنا حتى نبسط لك على الحصير شيئًا؟ فقال رسول الله : "ما لي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب ظل تحت شجرة ثم راح وتركها" (٣). ورواه الترمذي وابن ماجه من حديث المسعودي به وقال الترمذي: حسن صحيح (٤).

وقوله تعالى: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (٥)﴾ أي: في الدار الآخرة يعطيه حتى يرضيه في أمته، وفيما أعده له من الكرامة، ومن جملته نهر الكوثر الذي حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف، وطينه مِسك أذفر كما سيأتي (٥).

وقال الإمام أبو عمرو الأوزاعي، عن إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر المخزومي، عن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه قال: عُرِض على رسول الله ما هو مفتوح على أُمته من


(١) أخرجه الطبري بسند ضعيف من طريق العوفي به، ويشهد له ما سبق.
(٢) أخرجه الطبري بسند صحيح من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة؛ وأخرجه آدم والطبري بسند صحيح من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد بلفظ: "إذا استوى"؛ وأخرجه الطبري بسند صحيح من طريق ابن وهب عن ابن زيد.
(٣) أخرجه الإمام أحمد بسنده ومتنه (المسند ٦/ ٢٤٢ ح ٣٧٠٩) وصحح سنده محققوه.
(٤) سنن الترمذي، الزهد، باب ما أنا في الدنيا إلا راكب (ح ٢٣٧٧)؛ وسنن ابن ماجه، الزهد، باب مثل الدنيا (ح ٤١٠٩)؛ وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (ح ٣٣١٧).
(٥) سيأتي في تفسير سورة الكوثر.