للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

ابن زيد - في قوله: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا﴾ قال: هؤلاء المشركون حين حالوا بين رسول الله يوم الحديبية وبين أن يدخل مكة حتى نحر هديه بذي طوى، وهادنهم، (وقال) (١) لهم: ما كان أحد يصد عن هذا البيت، وقد كان الرجل يلقى قاتل أبيه وأخيه فلا يصده. فقالوا: لا يدخل علينا من قتل آباءنا يوم بدر وفينا باق.

وفي قوله: ﴿وَسَعَى فِي خَرَابِهَا﴾ قال: إذ قطعوا من يعمرها بذكره، ويأتيها للحج والعمرة.

وقال ابن أبي حاتم (٢)، ذكر عن سلمة؛ قال: محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس - أن قريشًا منعوا النبي الصلاة عند الكعبة في المسجد الحرام، فأنزل الله: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾ ثم اختار ابن جرير (٣) القول الأول. واحتج بأن قريشًا لم تسع في خراب الكعبة، وأما الروم فسعوا في تخريب بيت المقدس.

قلت: والذي يظهر - والله أعلم - القول الثاني، كما قاله ابن زيد، و (روي عن) (٤) ابن عباس؛ لأن النصارى إذا منعت اليهود الصلاة في البيت المقدس كان دينهم أقوم من دين اليهود، وكانوا أقرب منهم، ولم يكن ذكر الله من اليهود مقبولًا إذ ذاك؛ لأنهم لعنوا من قبل على لسان داود وعيسى بن مريم؛ ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون.

وأيضا فإنه تعالى لما وجه الذم في حق اليهود والنصارى شرع في ذم المشركين الذين أخرجوا الرسول وأصحابه من مكة، ومنعوهم من الصلاة في المسجد الحرام.

وأما اعتماده على أن قريشًا لم تسع في خراب الكعبة، فأي خراب أعظم مما فعلوا؟ أخرجوا عنها رسول الله وأصحابه، واستحوذوا عليهم بأصنامهم وأندادهم وشركهم؛ كما قال تعالى: ﴿وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٣٤)[الأنفال: ٣٤]. وقال تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (١٧) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨)[التوبة: ١٧]. وقال تعالى: ﴿هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (٢٥)[الفتح: ٢٥] فقال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ﴾ [التوبة: ١٨]، فإذا كان من هو كذلك مطرودًا منها مصدودًا عنها؛ فأي خراب لها أعظم من ذلك؟ وليس المراد من عمارتها زخرفتها، وإقامة صورتها فقط؛ إنما عمارتها بذكر الله فيها، وإقامة شرعه فيها، ورفعها من الدنس والشرك.

وقوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ﴾ هذا خبر معناه الطلب؛ أي: لا


(١) في (ج): "وكان"!
(٢) في "تفسيره" (١١١٧).
(٣) (١/ ٥٢٢ - ٥٢٤) في كلام طويل.
(٤) ساقط من (ج) و (ل).