للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

حدثني أبي، عن جدّته أُم أبيه نويلة بنت مسلم (١) قالت: صلينا الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة، فاستقبلنا مسجد إيلياء، فصلّينا ركعتين، ثم جاء من يحدثنا أن رسول الله قد استقبل البيت الحرام، فتحوّل النساء مكان الرجال، والرجال مكان النساء، فصلّينا السجدتين الباقيتين ونحن مستقبلون البيت الحرام، فحدّثني رجل من بني حارثة أن النبي قال: "أولئك رجال يؤمنون بالغيب" (٢).

وقال ابن مردويه أيضًا: حدثنا محمد بن علي بن دُحيم، حدثنا أحمد بن حازم، حدثنا مالك بن إسماعيل النهدي، حدثنا قيس، عن زياد بن علاقة، عن عمارة بن أوس قال: بينما نحن في الصلاة نحو بيت المقدس ونحن ركوع إذ أتى منادٍ بالباب: أن القبلة قد حوّلت إلى الكعبة. قال: فأشهد على إمامنا أنه انحرف فتحوّل هو والرجال والصبيان وهم ركوع نحو الكعبة (٣).

وقوله: ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ أمر تعالى باستقبال الكعبة من جميع جهات الأرض شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا، ولا يستثنى من هذا شيء سوى النافلة في حال السفر، فإنه يصليها حيثما توجه قالبه وقلبه نحو الكعبة، وكذا في حال المسايفة في القتال يصلّي على كل حال، وكذا من جهل جهة القبلة يصلي باجتهاده وإن كان مخطئًا في نفس الأمر، لأن الله تعالى لا يكلّف الله نفسًا إلا وسعها.

[مسألة: وقد استدل المالكية بهذه الآية على أن المصلي ينظر أمامه لا إلى موضع سجوده، كما ذهب إليه الشافعي وأحمد وأبو حنيفة قال المالكية لقوله: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ فلو نظر إلى موضع سجوده لاحتاج أن يتكلف ذلك بنوع من الانحناء، وهو ينافي كمال القيام. وقال بعضهم: ينظر المصلي في قيامه إلى صدره.

وقال شريك القاضي: ينظر في حال قيامه إلى موضع سجوده كما قال جمهور الجماعة، لأنه أبلغ في الخضوع وآكد في الخشوع، وقد ورد به الحديث. وأما في حال ركوعه فإلى موضع قدميه، في حال سجوده إلى موضع أنفه، وفي حال قعوده إلى حجره] (٤).

وقوله: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ أي: واليهود الذين أنكروا استقبالكم الكعبة، وانصرافكم عن بيت المقدس يعلمون أن الله تعالى سيوجهك إليها بما في كتبهم عن أنبيائهم من النعت والصفة لرسول الله وأمته وما خصّه الله تعالى به وشرفه من الشريعة الكاملة العظيمة، ولكن أهل الكتاب يتكاتمون ذلك بينهم حسدًا وكفرًا وعنادًا، ولهذا يهددهم الله تعالى (٥) بقوله: ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾.


(١) نويلة بنت مسلم: قال الحافظ ابن حجر: نويلة بنت أسلم أو مسلم الأنصارية الحارثية (الإصابة ٤/ ٤٢٠).
(٢) في سنده إسحاق بن إدريس الأسواري البصري، متهم بالكذب (ميزان الاعتدال ١/ ١٨٤).
(٣) أخرجه ابن أبي شيبة من طريق قيس به (المصنف ١/ ٣٣٥) وسنده صحيح.
(٤) ما بين معقوفين زيادة من (عش) و (ح).
(٥) في (عش) و (ح): "تهددهم تعالى".