للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥)﴾.

يخبر تعالى عن كفر اليهود وعنادهم ومخالفتهم ما يعرفونه من شأن رسول الله (١) وأنه لو أقام عليهم كل دليل على صحة ما جاءهم به لما اتبعوه وتركوا أهواءهم كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (٩٧)[يونس: ٩٦، ٩٧]. ولهذا قال هاهنا: ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾ وقوله: ﴿وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ﴾ إخبار عن شدة متابعة الرسول لما أمره الله تعالى به، وأنه كما هم مستمسكون بآرائهم [وأهوائهم] (٢) فهو أيضًا متمسك بأمر الله وطاعته واتباع مرضاته وأنه لا يتبع أهواءهم في جميع أحواله وما كان (٣) متوجّهًا [إلى بيت المقدس لكونها] (٤) قبلة اليهود، وإنما ذلك عن أمر الله تعالى، ثم حذّر تعالى عن مخالفة الحق الذي يعلمه العالم إلى الهوى، فإن العالم الحجة عليه أقوم من غيره، ولهذا قال مخاطبًا للرسول والمراد الأمة: ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾.

﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧)﴾.

يخبر تعالى أن علماء أهل الكتاب يعرفون صحة ما جاءهم به الرسول كما يعرف أحدهم ولده، والعرب كانت تضرب المثل في صحة الشيء بهذا، كما جاء في الحديث أن رسول الله قال لرجل معه صغير: "ابنك هذا؟ " قال: نعم يا رسول الله أشهد به. قال: "أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه" (٥).

[قال القرطبي: ويُروى (٦) عن عمر أنه قال لعبد الله بن سلام: أتعرف محمدًا كما تعرف ولدك؟ قال: نعم وأكثر، نزل الأمين من السماء على الأمين في الأرض بنعته فعرفته، وإني لا أدري ما كان من أمه. قلت: وقد يكون المراد ﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾ من بين أبناء الناس. لا يشك أحد ولا يمتري في معرفة ابنه إذا رآه من بين أبناء الناس كلهم] (٧)، ثم أخبر تعالى أنهم مع هذا التحقق والإيقان العلمي ﴿لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ﴾ أي: ليكتمون الناس ما في كتبهم من صفة النبي ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾.


(١) في الأصل بعض الكلمات غير واضحة.
(٢) في الأصل: "وأعوانهم"، وما أثبت من (عش) و (ح) أفصح.
(٣) كذا في الأصل وفي (عش) و (ح): "ولا كان".
(٤) كذا في (عش) و (ح) وفي الأصل: "لبيت المقدس لأنها".
(٥) أي لا يطالب الأب بجناية ابنه، ولا يطالب الابن بجناية أبيه (انظر: النهاية ١/ ٣٠٩). وأخرجه الإمام أحمد من حديث أبي رمثة في المسند (١١/ ٦٧٦ ح ٧١٠٦) وصححه محققوه، وأخرجه أبو داود، السنن، الديات، باب لا يؤخذ أحد بجريرة أخيه أو أبيه (ح ٤٤٩٥)، وصححه الألباني في صحيح (السنن ح ٣٧٧٣).
(٦) في تفسير القرطبي: "رُوي" (الجامع ٢/ ١٦٣)؛ أي بصيغة التمريض.
(٧) ما بين معقوفين زيادة من (عش) و (ح).