للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ووجه بعضهم حجة الظلمة وهي داحضة أن قالوا: إن هذا الرجل يزعم أنه على دين إبراهيم، فإن كان توجُّهه إلى البيت المقدس على ملة إبراهيم فلم رجع عنه؟

والجواب: أن الله تعالى اختار له التوجه إلى بيت المقدس أولًا، لما له تعالى في ذلك من الحكمة، فأطاع ربه تعالى في ذلك، ثم صرفه إلى قبلة إبراهيم وهي: الكعبة، فامتثل أمر الله في ذلك أيضًا، فهو صلوات الله وسلامه عليه مطيع لله في جميع أحواله، لا يخرج عن أمر الله طرفة عين، وأُمته تبع له.

وقوله: ﴿فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي﴾ أي: لا تخشوا شبه الظلمة المتعنتين، وأفرِدوا الخشية لي، فإنه تعالى هو أهل أن يخشى منه، وقوله: ﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾ عطف على ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾ لأتم نعمتي عليكم فيما شرعت لكم من استقبال الكعبة، لتكمل لكم الشريعة من جميع وجوهها ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ أي: إلى ما ضلّت عنه الأُمم هديناكم إليه وخصصناكم به، ولهذا كانت هذه الأُمة أشرف الأُمم وأفضلها.

﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (١٥٢)﴾.

يذكّر تعالى عباده المؤمنين ما أنعم به عليهم من بعثه الرسول محمد إليهم يتلو عليهم آيات الله مبينات ويزكيهم؛ أي: يطهرهم من رذائل الأخلاق ودنس النفوس وأفعال الجاهلية، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ويعلمهم الكتاب وهو: القرآن والحكمة، وهي: السنّة، ويعلّمهم ما لم يكونوا يعلمون، فكانوا في الجاهلية (١) الجهلاء يسفهون بالقول الفِرى (٢)، فانتقلوا ببركة رسالته ويمن سفارته إلى حال الأولياء، وسجايا العلماء، فصاروا أعمق الناس علمًا، وأبرّهم قلوبهم، [وأقلّهم تكلُّفًا، وأصدقهم لهجة] (٣). وقال تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (١٦٤)﴾ الآية [آل عمران]، وذمّ من لم يعرف قدر هذه النعمة، فقال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (٢٨)[إبراهيم: ٢٨].

قال ابن عباس: يعني: بنعمة الله محمدًا (٤) ، ولهذا ندب الله المؤمنين إلى الاعتراف بهذه النعمة، ومقابلتها بذكره وشكره وقال: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (١٥٢)﴾.

قال مجاهد في قوله: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ﴾ يقول: كما فعلت فاذكروني (٥).

قال عبد الله بن وهب، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم أن موسى قال: "يا ربِّ


(١) في الجاهلية: بياض في (عش).
(٢) الفرى: جمع فرية وهي الكذبة (النهاية ٣/ ٤٤٣).
(٣) في الأصل: "وأقلها تكلفًا، وأصدقها" والتصويب من (عش) و (ح).
(٤) في الأصل: "يعني: محمدًا " والمثبت من (عش) و (ح).
(٥) أخرجه الطبري بسند صحيح من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد.