للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكفر بالله والشرك به والصدّ عن سبيله، أبلغ وأشدّ وأعظم وأطم من القتل، ولهذا قال: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾ قال أبو مالك: أي ما أنتم مقيمون عليه أكبر من القتل (١).

وقال أبو العالية ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والحسن وقتادة والضحاك والربيع بن أنس في قوله: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾: يقول: الشرك أشد من القتل (٢).

وقوله: ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ كما جاء في الصحيحين: "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار وإنها ساعتي هذه، حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شجره ولا يختلي خلاه، فإن أحد ترخّص بقتال رسول الله ، فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم" (٣)، يعني بذلك صلوات الله وسلامه عليه قتاله أهلها يوم فتح مكة، فإنه فتحها عنوة وقتلت رجال منهم عند الخندمة، وقيل: صلحًا لقوله: "من أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن". [وقد حكى القرطبي إن النهي عن القتال عند المسجد الحرام منسوخ. قال قتادة: نسخها قوله: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾. قال مقاتل بن حيان: نسخها قوله: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥]. وفي هذا نظر] (٤).

وقوله: ﴿حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾ يقول تعالى: ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام إلا أن يبدؤوكم بالقتال فيه، فلكم حينئذ قتالهم وقتلهم دفعًا للصيال، كما بايع النبي أصحابه يوم الحديبية تحت الشجرة على القتال، لما تألبت عليه بطون قريش ومن مالأهم من أحياء ثقيف والأحابيش عامئذ، ثم كف الله القتال بينهم فقال: ﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ﴾ [الفتح: ٢٤]. وقال: ﴿وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [الفتح: ٢٥].

وقوله: ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢)﴾ أي: فإن تركوا القتال في الحرم وأنابوا إلى الإسلام والتوبة، فإن الله غفور رحيم (٥) يغفر ذنوبهم ولو كانوا قد قتلوا المسلمين في حرم الله فإنه تعالى لا يتعاظمه ذنب أن يغفره لمن تاب منه إليه.

ثم أمر الله بقتال الكفار: ﴿حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ أي: شرك. قاله ابن عباس (٦) وأبو العالية


(١) ذكره ابن أبي حاتم من غير سند.
(٢) قول أبي العالية أخرجه ابن أبي حاتم بسند جيد من طريق الربيع بن أنس، وبقية التابعين ذكرهم ابن أبي حاتم من غير سند، وقول مجاهد وقتادة أخرجه الطبري بأسانيد صحيحة.
(٣) صحيح البخاري، الحج، باب لا يحل القتال بمكة (ح ١٨٣٤)، وصحيح مسلم الحج، باب تحريم مكة (ح ١٣٥٣).
(٤) ما بين معقوفين زيادة من (عش) و (ح).
(٥) قوله: "غفور رحيم" زيادة من (ح).
(٦) أخرجه الطبري بسند ثابت من طريق علي بن أبي طلحة عنه.