للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مانع لوجود الصانع، وإنما أراد أن يدعي لنفسه هذا المقام عنادًا ومكابرة ويوهم أنه الفاعل لذلك، وأنه هو الذي يحيي ويميت، كما اقتدى به فرعون في قوله: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ [القصص: ٣٨] ولهذا قال له إبراهيم، لما ادَّعى هذه المكابرة: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ﴾ أي: إذا كنت كما تدَّعي من أنك تحيي وتميت، فالذي يحيي ويميت هو الذي يتصرف في الوجود في خلق ذواته وتسخير كواكبه وحركاته، فهذه الشمس تبدو كل يوم من المشرق، فإن كنت إِلهًا كما ادَّعيت تحيي وتميت، فأتِ بها من المغرب؟ فلما علم عجزه وانقطاعه وأنه لا يقدر على المكابرة في هذا المقام، بُهت، أي: إخرسَّ، فلا يتكلم، وقامت عليه الحجة، قال الله تعالى: ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ أي: لا يلهمهم حجة ولا برهانًا، بل حجتهم داحضة عند ربهم، وعليهم غضب، ولهم عذاب شديد، وهذا التنزيل على هذا المعنى أحسن مما ذكره كثير من المنطقيين، إن عدول إبراهيم عن المقام الأول إلى المقام الثاني انتقال من دليل إلى أوضح منه، ومنهم من قد يطلق عبارة ردية وليس كما قالوه، بل المقام الأول يكون كالمقدمة للثاني، ويبيّن بطلان ما ادّعاه نمرود في الأول والثاني، ولله الحمد والمنة.

وقد ذكر السدي أن هذه المناظرة. كانت بين إبراهيم ونمرود بعد خروج إبراهيم من النار، ولم يكن اجتمع بالملك إلا في ذلك اليوم فجرت بينهما هذه المناظرة (١).

وروى عبد الرزاق عن معمر، عن زيد بن أسلم أن النمرود كان عنده طعام وكان الناس يفدون إليه للميرة، فوفد إبراهيم في جملة من وفد للميرة، فكان بينهما هذه المناظرة، ولم يعط إبراهيم من الطعام كما أعطى الناس، بل خرج وليس معه شيء من الطعام، فلما قرب من أهله، عمد إلى كثيب من التراب فملأ منه عدليه، وقال: أشغل أهلي عني إذا قدمت عليهم، فلما قدم وضع رحاله، وجاء فاتكأ فنام، فقامت امرأته سارة إلى العدلين فوجدتهما ملآنين طعامًا طيبًا، فعملت طعامًا، فلما استيقظ إبراهيم وجد الذي قد أصلحوه، فقال: أنى لك هذا؟ قالت: من الذي جئت به، فعرف أنه رزق رزقهم الله ﷿. قال زيد بن أسلم: وبعث الله إلى ذلك الملك الجبار ملكًا، يأمره بالإيمان بالله، فأبى عليه، ثم دعاه الثانية فأبى ثم الثالثة فأبى، وقال: اجمع جموعك وأجمع جموعي، فجمع النمرود جيشه وجنوده وقت طلوع الشمس، وأرسل الله عليهم بابًا من البعوض بحيث لم يروا عين الشمس، وسلطها الله عليهم فأكلت لحومهم ودماءهم، وتركتهم عظامًا بادية، ودخلت واحدة منها في منخري الملك، فمكثت في منخري الملك أربعمائة سنة، عذبه الله بها، فكان يضرب برأسه بالمرازب في هذه المدة، حتى أهلكه الله بها (٢).

﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٥٩)﴾.

تقدم قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ﴾ [البقرة: ٢٥٨] وهو في قوة قوله: هل


(١) أخرجه الطبري بنحوه بالسند المتقدم عن السدي.
(٢) أخرجه عبد الرزاق بسنده ومتنه، وسنده صحيح.