للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الشيطان فعمل بالمعاصي، حتى أغرق أعماله (١). ثم رواه البخاري عن الحسن بن محمد الزعفراني، عن حجاج بن محمد الأعور، عن ابن جريج … فذكره، وهو من أفراد البخاري ، وفي هذا الحديث كفاية في تفسير هذه الآية، وتبيين ما فيها من المثل بعمل من أحسن العمل أولًا ثم بعد ذلك انعكس سيره فبدل الحسنات بالسيئات عياذًا بالله من ذلك، فأبطل بعمله الثاني ما أسلفه فيما تقدم من الصالح، واحتاج إلى شيء من الأول في أضيق الأحوال، فلم يحصل منه شيء وخانه أحوج ما كان إليه، ولهذا قال تعالى: ﴿وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ﴾ وهو الريح الشديد ﴿فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ﴾ أي: أحرق ثمارها وأباد أشجارها، فأي حال يكون حاله؟

وقد روى ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس، قال: ضرب الله مثلًا حسنًا وكل أمثاله حسن، قال: ﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾ يقول: صنعه في شيبته ﴿وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ﴾ وولده وذريته ضعاف عند آخر عمره، فجاءه إعصار فيه نار فاحترق بستانه، فلم يكن عنده قوة أن يغرس مثله، ولم يكن عند نسله خير يعودون به عليه، وكذلك الكافر يكون يوم القيامة إذا ردّ إلى الله ﷿، ليس له خير فيستعتب، كما ليس لهذا قوة فيغرس مثل بستانه، ولا يجده قدم لنفسه خيرًا يعود عليه، كما لم يغن عن هذا ولده، وحرم أجره عند أفقر ما كان إليه، كما حرم هذا جنته عندما كان أفقر ما كان إليها عند كبره وضعف ذريته (٢). وهكذا روى الحاكم في مستدركه أن رسول الله كان يقول في دعائه: "اللَّهم اجعل أوسع رزقك على عند كبر سني وانقضاء عمري" (٣)، ولهذا قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ أي: تعتبرون وتفهمون الأمثال والمعاني وتنزلونها على المراد منها. كما قال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (٤٣)﴾.

﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (٢٦٩)﴾.

يأمر تعالى عباده المؤمنين بالإنفاق والمراد به الصدقة ههنا، قاله ابن عباس: من طيبات ما رزقهم من الأموال التي اكتسبوها (٤).

قال مجاهد: يعني التجارة (٥). بتيسيره إياها لهم.


(١) أخرجه البخاري بسنده ومتنه (الصحيح، تفسير سورة البقرة، باب قوله: ﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ … ﴾ [البقرة: ٢٦٦] ح ٤٥٣٨).
(٢) أخرجه الطبري وابن أبي حاتم بسنده ومتنه، وسنده ضعيف.
(٣) أخرجه الحاكم من طريق عيسى بن ميمون عن القاسم بن محمد عن عائشة مرفوعًا، المستدرك ١/ ٥٤٢، وحسنه الحاكم، وتعقبه الذهبي بأنّ عيسى متهم.
(٤) أخرجه الطبري وابن أبي حاتم، بسند ثابت من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس بلفظ: "تصدقوا من أطيب أموالكم وأنفسه".
(٥) أخرجه الطبري بسند صحيح من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد.