للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

تنافرت أفكارهم وتعددت آراؤهم حتى صار عصره أزهى عصور العلم في خلافة بني العباس.

كان يعقد مجالس المناظرة بين الطرفين المتخاصمين تجلت فيها المصادرة والمكابرة لا لإظهار الصواب وإلزام الخصم ولكن لبيان الفضل، كما ظهرت المعاندة والمجادلة والأجوبة الجدلية، وكان المأمون ينحاز إلى المعتزلة في بعض آرائهم كالقول بخلق القرآن ... تلك الفتنة التي أثارها مثلث الاعتزال وهم الجعد بن درهم وجهم بن صفوان وبشر المريسي.

وظن المأمون بذلك أن رأيه سيكون موضع استجابة من العلماء والفقهاء وكان جاء الأمر على غير ما توقع من رميه بالخداع حتى وصل الأمر في بعض المغالين بتكفير من يرى أن القرآن مخلوق، وتأول آيات "الجعل" في القرآن أنها تفيد الخلق، وما على تعدد معاني هذا اللفظ الذي قد يرد بمعنى التسمية كذباً كقوله تعالى: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر: ٩١] أي سموه كذباً. وقوله: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً} [الزخرف: ١٩] وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى} [النجم: ٢٧] وقد تأتي بمعنى "أوجد" وتتعدى إلى مفعول واحد، والفرق بينها وبين الخلق أن الخلق فيه معنى التقدير، ويكون ذلك عن عدم سابق حيث لا يتقدم سبب محسوس ولا مادة؛ كخلاف الجعل بمعنى الإيجاد. قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:١] وإنما الظلمات والنور توجد بوجودها وتعدم بعدمها.

وقد ترد بمعنى النقل من حال إلى حال والتصيير، فتعدى إلى مفعولين إما حساً؛ كقوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً} [البقرة: ٢٢] وإما عقلاً، كقوله تعالى: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} [ص: ٥] .

وقد تؤدى معنى الاعتقاد؛ كقوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} [لأنعام: ١٠٠] .

وقد تفيد الحكم بالشيء على الشيء حقاً كان أو باطلاً فالحق كقوله: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: ٧] والباطل؛ كقوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً} [الأنعام: ١٣٦] ١.

تبنى المأمون محنة القول بخلق القرآن وجند لها أخاه المعتصم الذي كان يطلب إلى المعلمين أن يعلموا الصبيان أن القرآن مخلوق وقتل فيها من العلماًء من قتل، وأهين من أهل الحديث من أهين لا سيما الإمام أحمد بن حنبل، وروج لسوق الفتنة الواثق بعد المعتصم الذي كان يختبر الأئمة والمؤذنين في القول بخلق القرآن، ويظهر الغلظة لمن قال


١ انظر: "مناع القطان/مباحث في علوم القرآن" ٢١٣ مؤسسة الرسالة الطبعة الثانية ١٩٨١.

<<  <  ج: ص:  >  >>