لقد اعتنى علماء الحديث عناية خاصة بمصادر الأخبار التي تتوارد عليهم وفتشوا في إسنادها، فالإسناد من الدين، ولولاه لقال من شاء ما شاء.
ومن لوازم معرفة الإسناد السؤال عن رجاله من حيث أمانتهم ومعتقداتهم وعباداتهم وسلوكهم يقول شعبة بن الحجاج: ما كانوا يأخذون عن الرجل حتى ينظروا إلى صلاته وهيئته وسمته.
قال الشعبي في الربيع بن خيثم: كان من معادن الصدق، وقال: حدثني الأعور وكان كذاباً.
وفي ثوير بن أبي فاختة قال الثوري: كان من أركان الكذب وكان الأعمش يروي عنه.
قلت: وكان الأعمش سليمان بن مهران من أمراء المؤمنين في الحديث وقال في حجاج بن أرطأة: عليكم به فإنه ما لقي أحد أعرف بما خرج من رأسه منه.
وقال الأوزاعي في إسماعيل بن مهاجر الدمشقي: كان مأموناً على ما حدث.
تلك ألفاظ قد عرضناها لك أيها القارىء أطلقت في تجريح لعض الرواة وتوثيقهم، ولكنها لم تكن منظمة ولا محددة حتى جاء القرن الثالث والرابع الهجريين حيث التدوين لسائر المعارف والعلوم التي تخدم الكتاب والسنة، ومنها وضع قواعد علم الجرح والتعديل حتى توثقت عراه واستقامت دعائمه، ورسخت قواعده فبين المحدثون مرادهم في كثير من الألفاظ، وألفوا العديد من المصنفات الخاصة بالثقات وأخرى خاصة كالضعفاء والمتروكين والكذابين وثالثة جمعت بين الثقات والضعفاء إلى غير ذلك من كتب التواريخ المعنية برجال الحديث بصفة رئيسية، وكذلك كتب الطبقات والأنساب، ورغم هذه الجهود الطيبة الواعية والدقيقة إلا أنه ما من كمال إلا وهناك ما هو أكمل منه، وما من قانون بشري إلا وتتفاوت فيه العقليات وتعتريه المعضلات والمشكلات هي أشبه بالثغرات تخترق هذا الصرح الشامخ التليد.