ونقتصر هنا فى الرد إجمالاً (١) على من يحكمون عقولهم فى أحاديث أحوال يوم القيامة بكلمة جامعة للإمام ابن خلدون فى تقويم البحث فى المغيبات وتسفيه العقل فى ذلك. قال: "ولا تثقن بما يزعم لك الفكر من أنه مقتدر على الإحاطة بالكائنات وأسبابها والوقوف على تفصيل الوجود كله وسفه رأيه فى ذلك، واعلم أن الوجود عند كل مدرك فى بادئ رأيه منحصر فى مداركه ولا يعدوها، والأمر فى نفسه بخلاف ذلك والحق من ورائه، ألا ترى الأصم كيف ينحصر الوجود عنده فى المحسوسات الأربع والمعقولات ويسقط من الوجود عنده صنف المسموعات، وكذلك الأعمى أيضاً يسقط عنده صنف المرئيات، ولولا ما يردهم إلى ذلك تقليد الآباء والمشيخة من أهل عصرهم والكافة لما أقروا به، لكنهم يتبعون الكافة فى إثبات هذه الأصناف، لا بمقتضى فطرتهم وطبيعة إدراكهم، ولو سئل الحيوان الأعجم ونطق لوجدناه منكراً للمعقولات وساقطة لديه بالكلية، فإذا علمت هذا فلعل هناك ضرباً من الإدراك غير مدركاتنا، لأن إدراكاتنا مخلوقة محدثة، وخلق الله أكبر من خلق الناس، والحصر مجهول، والوجود أوسع نطاقاً من ذلك والله من ورائهم محيط، فاتهم إدراكك ومدركاتك فى الحصر، واتبع ما أمرك الشارع به من اعتقادك وعملك، فهو أحرص على سعادتك، وأعلم بما ينفعك لأنه من طور فوق إدراكك، ومن نطاق أوسع من نطاق عقلك.
وليس بقادح فى العقل ومداركه، بل العقل ميزان صحيح، فأحكامه يقينية، لا كذب فيها، غير أنك لا تطمع أن تزن أمور التوحيد، والآخرة، وحقيقة النبوة، وحقائق الصفات الإلهية، وكل ما وراء طوره، فإن ذلك طمع فى محال.
(١) راجع: ما سبق تفصيله فى بطلان قاعدة عرض السنة علىالعقل ص ٢٤٤-٢٤٨.