للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عنهما لوجه فيكون ذلك عبادة، ثم يجدوا خلاء الكف توخانا إليهما ويصبروا، فيكون ذلك أذكارًا لقدر النعمة التي كانت عليهم طول الدهر بالإطلاق والإباحة، إذا أردت اليهم شكروها وأدوا حقها. ولاشك أن هذا من أبواب الفتوى، وهو نظير ما قيل في الأمراض والأسقام، إنما ممن يمتحن الله بها عباده ليصروا عليها في أزمانها فيأخذهم بها وينسهم، ويذكروا عندها النعمة التي كانت عليهم بالصحة والقوة من قبل، حتى ان عادت عليهم شكرها، ولم يغفلوا عن حقها.

وفيه وجه آخر: وهو أن يكون المعنى: لعلكم تتقون البخل وإهمال المحتاجين والتغافل عنهم، وذلك أن الجوع والعطش أمران حيل الناس عليهما، وأنهم أغنياء يهكففون وضعفاء محتاجون، فإذا استمر للواجدين الأكل والشرب سهوا أو غفلوا ولم يدنها بالجوع. وإذا لم يدركوه لم يذكروا أهله والمبتلين به، فقص عليهم الصوم مدة حتى إذا أحسنوا من تأخر الطعام عنهم، وفيه المعهود من الضحى وانتصاف النهار إلى الماء من الجهد يذكروا لذلك حال من يطوي يومًا بلياليه أو أكثر من ذلك لاظمأ ولا طاعمًا لشدة ضره وفقره وفاقته. فيصير ذلك قبسًا لعطفهم وإحسانهم إليهم، وشكرهم نعمة الله عندهم، وفضله له بهم. وقد جاء عن يوسف عليه السلام أنه كان يجوع، فقيل له: أتجوع وخزائن الأرض بيدك يراد خزائن مصر فقال: إني أخاف أن أشبع فأنسى الجياع، وهكذا الناس كلهم إذا استمر بهم التمكن من الطعام والشراب، نسوا الجياع، فامتحنوا بالصوم مدة ليجوعوا، فيذكرهم جوعهم جوع غيرهم. فيرحموهم ويواسوهم، ولا يستبدوا بالنعم التي أتوها ويشركوا غيرهم فيها، فيما أعطوها. ولا شك أن المواساة والعطف والإحسان من التقوى، وليس بين هذه الأوجه مناف. فقد يجوز أن تكون جميعها مرادًا بالآية والله أعلم.

فأما ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: (إن لكل شيء زكاة، وزكاة الجسد الصيام) فهو والله أعلم إخراج شيء من المال لوجه الله تعالى. وهذا والله أعلى رتب الصيام على الزكاة. فلما حد أركان الإسلام وذكره على أثرها، فإنه كان داخلاً في معناها. وإنما فرق بينهما أن الزكاة حق المال، والصيام حق البدن.

<<  <  ج: ص:  >  >>