فَلَهُمْ بِذَاكَ مَزِيَّةٌ فِي عيشهم ... ونعيمهم للأرواح وَالْأَبْدَانِ
بَذَلُوا الْجُسُومَ لِرَبِّهِمْ فَأَعَاضَهُمْ ... أَجْسَامَ تِلْكَ الطَّيْرِ بِالْإِحْسَانِ
وَلَهَا قَنَادِيلٌ إِلَيْهَا تَنْتَهِي ... مَأْوَى لَهَا كَمَسَاكِنِ الْإِنْسَانِ
فَالرُّوحُ بَعْدَ الْمَوْتِ أَكْمَلُ حَالَةٍ ... مِنْهَا بِهَذِي الدَّارِ فِي جُثْمَانِ
وَعَذَابُ أَشْقَاهَا أَشَدُّ مِنَ الَّذِي ... قَدْ عَايَنَتْ أَبْصَارُنَا بِعِيَانِ
وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهَا عَرَضٌ أَبَوْا ... ذَا كُلَّهُ تَبًّا لِذِي نُكْرَانِ
وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ إِخْرَاجَ الْوَرَى ... بَعْدَ الْمَمَاتِ إِلَى الْمَعَادِ الثَّانِي
أَلْقَى عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي هُمْ تَحْتَهَا ... وَاللَّهُ مُقْتَدِرٌ وَذُو سُلْطَانِ
مَطَرًا غَلِيظًا أَبْيَضًا مُتَتَابِعًا ... عَشْرًا وَعَشْرًا بَعْدَهَا عَشْرَانِ
فَتَظَلُّ تَنْبُتُ مِنْهُ أَجْسَامُ الْوَرَى ... وَلُحُومُهُمْ كَمَنَابِتِ الرَّيْحَانِ
حَتَّى إِذَا مَا الْأُمُّ حَانَ وِلَادُهَا ... وَتَمَخَّضَتْ فَنِفَاسُهَا مُتَدَانِ
أَوْحَى لَهَا رَبُّ السَّمَا فَتَشَقَّقَتْ ... فَبَدَا الْجَنِينُ كَأَكْمَلِ الشُّبَّانِ
وَتَخَلَّتِ الْأُمُّ الْوَلُودُ وَأَخْرَجَتْ ... أَثْقَالُهَا أُنْثَى وَمِنْ ذُكْرَانِ
وَاللَّهُ يُنْشِئُ خَلْقَهُ فِي نَشْأَةٍ ... أُخْرَى كَمَا قَدْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ
هَذَا الَّذِي جَاءَ الكتاب وسنة ... الهادي بِهِ فَاحْرِصْ عَلَى الْإِيمَانِ
مَا قَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْدَمُ خَلْقَهُ ... طُرًّا كَقَوْلِ الْجَاهِلِ الْحَيْرَانِ
قَوْلُهُ هَذَا الْمَعَادُ وَذَلِكَ الْمَبْدَأُ لَدَى جَهْمٍ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ وَتَقَدَّمَ تَرْجَمَةُ جَهْمٍ وَبَيَانُ مَذْهَبِهِ وَعَمَّنْ أَخَذَهُ وَمَنْ أَخَذَ عَنْهُ, وَقَوْلُهُ وَهُوَ الَّذِي قَادَ ابْنَ سِينَا هُوَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ سِينَا وَاسْمُهُ الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ رَئِيسُ الْفَلَاسِفَةِ وَمُهَذِّبُ مَذْهَبِهِمْ, لَهُ كِتَابُ الْإِشَارَاتِ الَّذِي هَذَّبَ فِيهِ مَذْهَبَ أَرِسْطُو وَقَرَّبَهُ قَلِيلًا إِلَى الْأَدْيَانِ وَكَانَ -فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ- يَقُولُ بِقِدَمِ الْعَالَمِ وَإِنْكَارِ الْمَعَادِ وَنَفْيِ عِلْمِ الرَّبِّ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ وَخَلْقِهِ الْعَالِمَ وَبَعْثِهُ مَنْ فِي الْقُبُورِ, وَكَانَ ابْنُ سِينَا هَذَا تَفَقَّهَ مَذْهَبَ الْفَلَاسِفَةِ مِنْ كُتُبِ الْفَارَابِيِّ أَبِي نَصْرٍ التُّرْكِيِّ الْفَيْلَسُوفِ وَكَانَ الْفَارَابِيُّ هَذَا قَبَّحَهُ اللَّهُ يَقُولُ بِالْمَعَادِ الرُّوحَانِيِّ لَا الْجُثْمَانِيِّ, وَيُخَصِّصُ بِالْمَعَادِ الْأَرْوَاحَ الْعَالِمَةَ لَا الْجَاهِلَةَ وَلَهُ مَذَاهِبُ فِي ذَلِكَ, يُخَالِفُ الْمُسْلِمِينَ وَالْفَلَاسِفَةَ مِنْ سَلَفِهِ الْأَقْدَمِينَ, وَتَحَمَّلَ ذَلِكَ عَنْهُ ابْنُ سِينَا وَنَصَرَهُ, وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ الْغَزَالِيُّ فِي تَهَافُتِ الْفَلَاسِفَةِ فِي