وَلَيْسَ فِي فِعْلِ الْأَسْبَابِ مَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ مَعَ اعْتِمَادِ الْقَلْبِ عَلَى خَالِقِ السَّبَبِ, وَلَيْسَ التَّوَكُّلُ بِتَرْكِ الْأَسْبَابِ, بَلِ التَّوَكُّلُ مِنَ الْأَسْبَابِ, وَهُوَ أَعْظَمُهَا وَأَنْفَعُهَا وَأَنْجَحُهَا وَأَرْجَحُهَا, كَمَا أَنَّ مَنِ اضْطَرَبَتْ نَفْسُهُ وَوَجِلَ قَلْبُهُ فَرَقًا وَخَوْفًا وَارْتِيَابًا وَعَدَمَ يَقِينٍ بِالْقَدَرِ, لَا يَكُونُ مُتَوَكِّلًا عَلَى اللَّهِ بِمُدَانَاتِهِ الْمَرْضَى وَالْمُبْتَلِينَ وَتَرْكِهِ فِعْلَ الْأَسْبَابِ, فَكَمَا لَا يَكُونُ الْمُرْتَابُ مُتَوَكِّلًا بِمُجَرَّدِ تَرْكِهِ الْأَسْبَابَ, كَذَلِكَ لَا يَكُونُ الْمُوَحِّدُ تَارِكًا التَّوَكُّلَ أَوْ نَاقِصَهُ بِمُجَرَّدِ فِعْلِ الْأَسْبَابِ النَّافِعَةِ وَتَوَقِّي الْمَضَرَّةِ وَحِرْصِهِ عَلَى مَا يَنْفَعُهُ, فَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِيمَا وَقَرَ فِي الْقُلُوبِ وَسَكَنَتْ إِلَيْهِ النُّفُوسُ, وَالتَّوْفِيقُ بِيَدِ اللَّهِ, وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ نَهْيُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الْقُدُومِ عَلَى الْبِلَادِ الَّتِي بِهَا الطَّاعُونُ وَعَنِ الْخُرُوجِ مِنْهَا فِرَارًا مِنْهُ فَإِنَّ فِي الْقُدُومِ عَلَيْهِ تَعَرُّضًا لِلْبَلَاءِ, وَإِلْقَاءً بِالْأَيْدِي إِلَى التَّهْلُكَةِ وَتَسَبُّبًا لِلْأُمُورِ الَّتِي أَجْرَى اللَّهُ تَعَالَى الْعَادَةَ بِمَضَرَّتِهَا. وَفِي الفرار منه تسخط لِقَضَاءِ اللَّهِ عز وجل وارتياب فِي قَدَرِهِ وَسُوءَ ظَنٍّ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, فَأَيْنَ الْمَهْرَبُ مِنَ اللَّهِ وَإِلَى أَيْنَ الْمَفَرُّ, لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ كَمَا رَوَى مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغَ لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الْأَجْنَادِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَصْحَابُهُ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِأَرْضِ الشَّامِ, قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقَالَ عُمَرُ بن الخطاب: ادع إلى الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ, فَدَعَاهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ فَاخْتَلَفُوا, فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ خَرَجْتَ لِأَمْرٍ وَلَا نَرَى أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَا نَرَى أَنْ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ. فَقَالَ عُمَرُ: ارْتَفِعُوا عَنِّي ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لي الأنصار فدعاهم فَاسْتَشَارَهُمْ فَسَلَكُوا سَبِيلَ الْمُهَاجِرِينَ وَاخْتَلَفُوا كَاخْتِلَافِهِمْ فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي من كان ههنا مَنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِنْ مهاجرة الفتح, فدعوهم فَلَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ مِنْهُمْ رَجُلَانِ فَقَالُوا: نَرَى أَنْ تَرْجِعَ بِالنَّاسِ وَلَا تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ فَنَادَى عُمَرُ فِي النَّاسِ: إِنِّي مُصْبِحٌ عَلَى ظَهْرٍ, فأصبحوا عليه, فقال أَبُو عُبَيْدَةَ: أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ؟ فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ غَيْرُكَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute