للفتيا لا يتكلم حتى يُسأل، وإذا خرج إلى مسجده لم يتصدر، يقعد حيث انتهى به المجلس، وكان لا يمد قدمه في المجلس ويكرم جليسه، وكان حسن الخلق دائم البشر لين الجانب ليس بفظ ولا غليظ، وكان يحب في اللَّه ويبغض في اللَّه، وكان إذا أحب رجلًا أحب له ما يحب لنفسه، وكره له ما يكره لنفسه، ولم يمنعه حبه إياه أن يأخذ على يديه ويكفه عن ظلم أو إثم أو مكروه إن كان منه، وكان إذا بلغه عن شخص صلاح أو زهد أو قيام بحق أو اتباع للأمر سأل عنه وأحب أن يجري بينه وبينه معرفة، وأحب أن يعرف أحواله، وكان رجلًا فطنًا إذا كان شيء لا يرضاه اضطرب لذلك، يغضب للَّه ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها، فإذا كان في أمر من الدين اشتد له غضبه حتى كأنه ليس هو، لا تأخذه في اللَّه لومة لائم، وكان حسن الجوار يؤذى فيصبر ويحتمل الأذى من الجار، ولقد أخبرني بعض جيرانه، ممن بينه وبينه حائط قال: كان لي برج فيه حمام، وكان يشرف على أبي عبد اللَّه، فكنت أصعد وأنا غلام أشرف عليه، فمكث على ذلك صابرًا لا ينهاني، فبينا أنا يومًا إذ صعد عمي فنظر إلى البرج مشرفًا على أبي عبد اللَّه فقال: ويحك، أما تستحي أن تؤذِي أبا عبد اللَّه؟ قلت له: فإنه لم يقل لي شيئًا. قال: فلست أبرح حتى تهب لي هذِه الطيور، فما برح حتى وهبتها له فذبحها وهدم البرج.
قال هارون بن سفيان المستملي: جئت إلى أحمد بن حنبل حين أراد أن يفرق الدراهم التي جاءَته من المتوكل قال: فأعطاني مائتي درهم، فقلت: لا تكفيني. قال: ليس هاهنا شيء غيرها، ولكني أعمل بك شيئًا، أعطيك ثلاثمائة درهم تفرقها.
قال: فلما أخذتها قلت: يا أبا عبد اللَّه، ليس واللَّه أعطي أحدًا منها شيئًا،