هاهنا فارغ، فأجابه، فقرأ علي في السجن كتاب الإرجاء وغيره، فرأيت أبا عبد اللَّه يصلي بأهل الحبس. وهو محبوس معهم وعليه القيد، وكان قيدًا واسعًا. فكان في وقت الصلاة والوضوء والنوم، يخرج إحدى الحلقتين من إحدى رجليه ويشدها على ساقه، فإذا صلى ردها في رجله، وكان ذلك بغير علم من إسحاق بن إبراهيم. فقلت له في الحبس: يا عم، أراك تصلي بأهل الحبس!
قال: ألا تراني وما أصنع؟ يعنى: في إخراج القيدين إحدى رجليه.
قلت: بلى.
ثم ذكر أبو عبد اللَّه حُجْرًا وأصحابه، فقال: أليس كانوا مقيدين؟ أليس كانوا يصلون جماعة على الضرورة؟ (١) لا بأس بذلك.
قال أبو عبد اللَّه: وإن كان فيهم مطلق ورضوه صلى بهم.
قلت: فالذي في رجله القيد، لا يمكنه أن يقعد في الصلاة على ما فعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وعلى آله في الركعة الآخرة، يمنعه القيد ذلك.
قال أبو عبد اللَّه: كيف ما تيسر وأطاق، إلا أني أنا أطيق ذلك، لأني أخرجه من رجلي. ثم قال: فكرت في أمرنا، فرأيت مثلنا، في هذا الأمر مثل حجر وأصحابه لما أخرجوا وقيدوا، فكأنا كنا في مثال أمرهم، ثم
قال أبو عبد اللَّه: أولئك أنكروا شيئا، ونحن دعينا إلى الكفر باللَّه، فالحمد للَّه على معونته وإحسانه، وسبحان اللَّه لهذا الأمر الذي أبلى منه العباد.
"ذكر المحنة" لحنبل ص ٣٤ - ٤١
(١) قصة حجر بن عدي وأصحابه انظرها في "طبقات ابن سعد" ٦/ ٢١٧ - ٢٢٠، "أسد الغابة" ١/ ٣٨٥ - ٣٨٦، "المستدرك" للحاكم ٣/ ٤٧٠، "الاستيعاب" ١/ ٣٩٠، "تاريخ الإسلام" للذهبي ٤/ ١٩٤.