بدعة، وهذا الترك يصير عاصياً بتركه لهذا العمل المشروع، مع اختلاف درجات الإثم والعقوبة باختلاف درجات المتروك من حيث الفرضية والوجوب والندب.
الثاني: أن يترك المباح أو المأمور به بقصد التدين والتعبد بهذا الترك، سواء كان في العبادات أو المعاملات أو العادات، بالقول أو الفعل أو الاعتقاد، فهذا الترك هو محل الابتداع إذ يعد عاصياً مبتدعاً بتركه هذا، وأصل هذا القسم في قصة الثلاثة الذين منعوا أنفسهم من بعض المباحات للتقوي على العبادة، ففي الصحيحين وغيرهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما أُخبروا كأنهم تقالّوها، قالوا: أين نحن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ ، قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء ولا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم فقال:" أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني ".
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرحه لهذا الحديث: (قوله: " فمن رغب عن سنتي فليس مني "، المراد بالسنة الطريقة لا التي تقابل الفرض، والرغبة عن الشيء الإعراض عنه إلى غيره، والمراد من ترك طريقتي وأخذ بطريقة غيري فليس مني، ولمّح بذلك إلى طريق الرهبانية فإنهم الذين ابتدعوا التشديد كما وصفهم الله - تعالى - وقد عابهم بأنهم ما وفوه بما التزموه، وطريقة النبي - صلى الله عليه وسلم - الحنفية السمحة فيفطر ليتقوى على الصوم، وينام ليتقوى على القيام، ويتزوج لكسر الشهوة وإعفاف النفس وتكثير النسل - إلى أن قال معدداً فوائد هذا الحديث ومنها - إزالة الشبهة عن المجتهدين، وأن المباحات قد تنقلب بالقصد إلى الكراهة