للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[خِطْبَة الْكتاب]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تَبَارَكَ الَّذِي أَبْدَعَ الْمَوْجُودَاتِ بِقُدْرَتِهِ، وَصَنَعَ أَنْوَاعَ الْمَخْلُوقَاتِ بِعَظَمَتِهِ، وَمَيَّزَ كُلًّا مِنْ الْعَالَمِينَ بِطَبِيعَتِهِ، أَحْمَدُهُ عَلَى مَا وَهَبَ مِنْ نُورِهِ الْقُدْسِيِّ، وَأَجْزَلَ مِنْ إشْرَاقِ الضِّيَاءِ الْحِسِّيِّ، وَأَوْدَعَ مِصْبَاحَ الْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ فِي مِشْكَاةِ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ، وَكَمَّلَهَا بِالزُّجَاجَةِ الشَّرِيفَةِ الْبَالِغَةِ الَّتِي يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ، وَجَعَلَهَا نُورًا عَلَى نُورٍ كَأَنَّهَا الْكَوْكَبُ الدُّرِّيُّ، مُتَوَقِّدَةً مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ عُلْوِيَّةٍ، لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ.

وَأَسْأَلُهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى خَيْرِ بَرِيَّتِهِ وَأَتَمِّهِمْ كَمَالًا، وَأَعْظَمِهِمْ إشْرَاقًا وَجَلَالًا، مُحَمَّدٍ الْمُؤَيَّدِ بِالرُّوحِ الْأَمِينِ، وَعَلَى مَنْ ارْتَضَى مِنْ أَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

(أَمَّا بَعْدُ) : فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَكْمَلَ بِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دِينَهُ الْقَوِيمَ، وَهَدَى بِهِ مَنْ شَاءَ إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَأَسَّسَ شَرْعَهُ الْمُطَهِّرَ عَلَى أَحْسَنِ الطَّرَائِقِ وَأَجْمَلِ الْقَوَاعِدِ، وَشَيَّدَهُ بِالتَّقْوَى وَالْعَدْلِ وَجَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ، وَأَيَّدَهُ بِالْأَدِلَّةِ الْمُوضِحَةِ لِلْحَقِّ وَأَسْبَابِهِ، الْمُرْشِدَةِ إلَى إيصَالِ الْحَقِّ لِأَرْبَابِهِ، وَحَمَاهُ بِالسِّيَاسَةِ الْجَارِيَةِ عَلَى سُنَنِ الْحَقِّ وَصَوَابِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الأنعام: ١١٥] فَالْمُرَادُ بِالْكَلِمَاتِ: الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، تَمَّتْ دَلَائِلُهُ وَحُجَجُهُ وَأَوَامِرُهُ وَنَوَاهِيهِ وَأَحْكَامُهُ وَبِشَارَتُهُ وَنِذَارَتُهُ وَأَمْثَالُهُ، وَقَالَ تَعَالَى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: ٣] الْآيَةَ.

وَلَمَّا كَانَ عِلْمُ الْقَضَاءِ مِنْ أَجَلِّ الْعُلُومِ قَدْرًا وَأَعَزِّهَا مَكَانًا وَأَشْرَفِهَا ذِكْرًا، لِأَنَّهُ مَقَامٌ عَلِيٌّ وَمَنْصِبٌ نَبَوِيٌّ، بِهِ الدِّمَاءُ تُعْصَمُ وَتُسْفَحُ، وَالْأَبْضَاعُ تَحْرُمُ وَتُنْكَحُ، وَالْأَمْوَالُ يَثْبُتُ مِلْكُهَا وَيُسْلَبُ، وَالْمُعَامَلَاتُ يُعْلَمُ مَا يَجُوزُ مِنْهَا وَيَحْرُمُ وَيُكْرَهُ وَيُنْدَبُ، وَكَانَتْ طُرُقُ الْعِلْمِ بِهِ خَفِيَّةَ الْمَشَارِبِ مَخُوفَةَ الْعَوَاقِبِ، وَالْحُجَجُ الَّتِي تُفْصَلُ بِهَا الْأَحْكَامُ مَهَامِهُ يَحَارُ فِيهَا الْقَطَا، وَتَقْصُرُ فِيهَا الْخُطَا، كَانَ الِاعْتِنَاءُ بِتَقْرِيرِ أُصُولِهِ وَتَحْرِيرِ فُصُولِهِ مِنْ أَجَلِّ مَا صُرِفَتْ لَهُ الْعِنَايَةُ، وَحُمِدَتْ عُقْبَاهُ فِي الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ، وَلَيْسَ عِلْمُ الْقَضَاءِ كَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلُومِ.

قَالَ بَعْضُ الْمُجْتَهِدِينَ: وَلَمْ يَكُنْ بِمَدِينَةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَعْلَمُ بِالْقَضَاءِ مِنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، كَانَ قَاضِيًا لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَكَانَ قَدْ أَخَذَ شَيْئًا مِنْ عِلْمِ الْقَضَاءِ مِنْ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، وَأَخَذَ ذَلِكَ أَبَانُ مِنْ أَبِيهِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ عِلْمَ الْقَضَاءِ لَيْسَ كَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلُومِ: قَوْله تَعَالَى {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: ٧٨] {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: ٧٩] فَأَثْنَى عَلَى دَاوُد بِاجْتِهَادِهِ فِي الْحُكْمِ، وَأَثْنَى عَلَى سُلَيْمَانَ بِاجْتِهَادِهِ وَفَهْمِهِ وَجْهَ الصَّوَابِ.

وَرُوِيَ عَنْ الْحُسَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قَوْله تَعَالَى {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص: ٢٠] قَالَ: هُوَ عِلْمُ الْقَضَاءِ، وَلَا غَرَابَةَ فِي امْتِيَازِ عِلْمِ الْقَضَاءِ عَنْ فِقْهِ فُرُوعِ الْمَذْهَبِ، لِأَنَّ عِلْمَ الْقَضَاءِ يَفْتَقِرُ إلَى مَعْرِفَةِ أَحْكَامٍ

 >  >>