للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الِاجْتِهَادِ فَسَبِيلُهُ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى الْجِهَةِ، فَإِنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ صَلَّى إلَى تِلْكَ الْمَحَارِيبِ إذَا كَانَ بَلَدًا لِلْمُسْلِمِينَ عَامِرًا؛ لِأَنَّ هَذَا أَقْوَى مِنْ اجْتِهَادِهِ مَعَ خَفَاءِ الدَّلَائِلِ عَلَيْهِ.

فَأَمَّا الْعَامِّيُّ فَيُصَلِّي فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ؛ إذْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ.

(تَنْبِيهٌ) :

وَهَذَا بِشَرْطِ أَنْ لَا يَشْتَهِرَ الطَّعْنُ فِيهَا كَمَحَارِيبِ الْقُرَى وَغَيْرِهَا بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فَإِنَّ أَكْثَرَهَا مَا زَالَ الْعُلَمَاءُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا يُنَبِّهُونَ عَلَى فَسَادِهَا. قَالَهُ الْقَرَافِيُّ.

وَلِلزَّيْنِ الدِّمْيَاطِيِّ فِي ذَلِكَ كِتَابٌ، وَلِغَيْرِهِ: وَقَدْ قَصَدَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ الشَّافِعِيُّ تَغْيِيرَ مِحْرَابِ قُبَّةِ الشَّافِعِيِّ وَالْمَدْرَسَةِ وَمُصَلَّى خَوْلَانَ فَعَاجَلَهُ مَا مَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ مِحْرَابُ الْمَحَلَّةِ مَدِينَةِ الْغَرْبِيَّةِ، وَالْفَيُّومِ وَهِيَ لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَلِّدَهَا عَالِمٌ وَلَا عَامِّيُّ.

وَالْحَاصِلُ أَنْ تَتَبُّعَ الْأَحْكَامِ مِمَّا يَطُولُ الْكَلَامُ عَلَيْهِ، فَيُقْتَصَرُ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ.

[فَصْلٌ فِي ذِكْرِ الْفِرَاسَةِ وَالْمَنْعِ مِنْ الْحُكْمِ بِهَا]

(فَصْلٌ) :

فِي ذِكْرِ الْفِرَاسَةِ وَالْمَنْعِ مِنْ الْحُكْمِ بِهَا

وَالْأَصْلُ فِي الْفِرَاسَةِ قَوْله تَعَالَى -: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: ٧٥] فَسَّرَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: لِلْمُتَفَرِّسِينَ. ذَكَرَهُ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ.

وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «إنَّ لِلَّهِ عِبَادًا يَعْرِفُونَ النَّاسَ بِالتَّوَسُّمِ» وَذَكَرَهُمَا التِّرْمِذِيُّ.

وَالْفِرَاسَةُ نَاشِئَةٌ عَنْ جَوْدَةِ الْقَرِيحَةِ وَحِدَةِ النَّظَرِ وَصَفَاءِ الْفِكْرِ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ قَوْمٌ مِنْ مَذْحِجٍ فِيهِمْ الْأَشْتَرُ، فَصَعَّدَ عُمَرُ فِيهِ النَّظَرَ وَصَوَّبَهُ وَقَالَ: أَيُّهُمْ هَذَا؟ فَقِيلَ: مَالِكُ بْنُ الْحَارِثِ، فَقَالَ: مَا لَهُ قَاتَلَهُ اللَّهُ؟ إنِّي لَأَرَى لِلْمُسْلِمِينَ مِنْهُ يَوْمًا عَصِيبًا، فَكَانَ مِنْهُ فِي الْفِتْنَةِ مَا كَانَ.

وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ وَفْدٌ مِنْ الْيَمَنِ وَكَانَ عُمَرُ وَالصَّحَابَةُ فِي الْمَسْجِدِ فَأَشَارُوا إلَى رَجُلٍ مِنْ الْوَفْدِ وَقَالُوا لِعُمَرَ: هَلْ تَعْرِفُ هَذَا؟ فَقَالَ: لَعَلَّهُ سَوَادُ بْنُ قَارِبٍ، فَكَانَ كَذَلِكَ.

وَكَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَسَمِعَ امْرَأَةً تَنْشُدُ فِي الطَّوَافِ:

وَمِنْهُنَّ مَنْ تُسْقَى بِعَذْبٍ مُبَرَّدٍ ... نُقَاخٍ فَتِلْكُمْ عِنْدَ ذَلِكَ قَرَّتْ

وَمِنْهُنَّ مَنْ تُسْقَى بِأَخْضَرَ آجِنٍ ... أُجَاجٍ وَلَوْلَا خَشْيَةُ اللَّهِ رَنَّتْ

فَتَفَرَّسَ عُمَرُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا شَكَتْ، فَبَعَثَ عُمَرُ إلَى زَوْجِهَا فَاسْتَنْكَهَهُ فَإِذَا هُوَ أَبْخَرُ الْفَمِ، فَأَعْطَاهُ خَمْسَمِائَةٍ وَجَارِيَةً عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا فَفَعَلَ.

وَرُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَدْ كَانَ مَرَّ بِالسُّوقِ فَنَظَرَ إلَى امْرَأَةٍ، فَلَمَّا نَظَرَ إلَيْهِ عُثْمَانُ قَالَ لَهُ: يَدْخُلُ أَحَدُكُمْ عَلَيْنَا، وَفِي عَيْنَيْهِ أَثَرُ الزِّنَا، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: أَوَحْيٌ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؟ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنْ بُرْهَانٌ وَفِرَاسَةٌ. وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ عَنْ عَلِيٍّ.

وَنَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الْفِرَاسَةُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حُكْمٌ، وَقَدْ كَانَ قَاضِي الْقُضَاةِ الشَّاشِيُّ الْمَالِكِيُّ بِبَغْدَادَ أَيَّامَ كَوْنِهِ فِي الشَّامِ يَحْكُمُ بِالْفِرَاسَةِ جَرْيًا عَلَى طَرِيقِ الْقَاضِي إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ إيَاسٌ قَاضِيًا فِي أَيَّامِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَهُ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ بِطَرِيقِ الْفِرَاسَةِ.

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَكَانَ شَيْخُنَا فَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ الشَّاشِيُّ صَنَّفَ جُزْءًا فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ كَتَبَهُ لِي بِخَطِّهِ وَأَعْطَانِيهِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ فَإِنَّ مَدَارِكَ الْأَحْكَامِ مَعْلُومَةٌ شَرْعًا مُدْرَكَةٌ قَطْعًا وَلَيْسَتْ الْفِرَاسَةُ مِنْهَا اهـ.

فَالْحُكْمُ بِالْفِرَاسَةِ مِثْلُ الْحُكْمِ بِالظَّنِّ وَالْحَزْرِ وَالتَّخْمِينِ، وَذَلِكَ فِسْقٌ وَجَوْرٌ مِنْ الْحَاكِمِ، وَالظَّنُّ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ، وَإِنَّمَا أُجِيزَتْ شَهَادَةُ التَّوَسُّمِ فِي مَحَلٍّ مَخْصُوصٍ لِلضَّرُورَةِ.

<<  <   >  >>