للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[الْبَابُ الثَّالِثُ فِي وِلَايَةِ الْقَضَاءِ]

وَمَا يُسْتَفَادُ بِهَا مِنْ النَّظَرِ فِي الْأَحْكَامِ، وَمَا لَيْسَ لِلْقَاضِي النَّظَرُ فِيهِ، وَمَرَاتِبِ الْوِلَايَةِ الَّتِي تُفِيدُ أَهْلِيَّةَ الْقَضَاءِ أَوْ شَيْئًا مِنْهَا أَمَّا وِلَايَةُ الْقَضَاءِ فَقَالَ الْقَرَافِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالذَّخِيرَةِ: هَذِهِ الْوِلَايَةُ مُتَنَاوِلَةٌ لِلْحُكْمِ لَا يَنْدَرِجُ فِيهَا غَيْرُهُ.

وَقَالَ أَيْضًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَلَيْسَ لِلْقَاضِي السِّيَاسَةُ الْعَامَّةُ لَا سِيَّمَا الْحَاكِمُ الَّذِي لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى التَّنْفِيذِ كَالْحَاكِمِ الضَّعِيفِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمُلُوكِ الْجَبَابِرَةِ، فَهُوَ يُنْشِئُ الْإِلْزَامَ عَلَى الْمَلِكِ الْعَظِيمِ وَلَا يَخْطُرُ لَهُ تَنْفِيذُهُ لِتَعَذُّرِ ذَلِكَ عَلَيْهِ، بَلْ الْحَاكِمُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ حَاكِمٌ لَيْسَ لَهُ إلَّا الْإِنْشَاءُ، وَأَمَّا قُوَّةُ التَّنْفِيذِ: فَأَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى كَوْنِهِ حَاكِمًا، فَقَدْ يُفَوَّضُ إلَيْهِ التَّنْفِيذُ، وَقَدْ لَا يَنْدَرِجُ فِي وِلَايَتِهِ، وَلَيْسَ لَهُ قِسْمَةُ الْغَنَائِمِ وَتَفْرِيقُ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى الْمَصَالِحِ وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ وَتَرْتِيبُ الْجُيُوشِ وَقِتَالُ الْبُغَاةِ وَتَوْزِيعُ الْإِقْطَاعَاتِ وَإِقْطَاعُ الْمَعَادِنِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ إلَّا بِإِذْنِ إمَامِ الْوَقْتِ الْحَاضِرِ انْتَهَى.

وَاعْلَمْ: أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يُقِيمُ الْحُدُودَ فِيهِ نَظَرٌ، وَالْمَنْقُولُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ لَهُ إقَامَةَ الْحُدُودِ إذْ هُوَ الْأَصْلُ؛ لِأَنَّهُ لِلْخُلَفَاءِ وَالْقُضَاةِ.

قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ: أَرْبَعٌ إلَى الْوُلَاةِ: الْفَيْءُ، وَالْجُمُعَةُ، وَالْحُدُودُ، وَالصَّدَقَاتُ. نَعَمْ الْقَتْلُ لَا يَكُونُ لِكُلِّ الْقُضَاةِ وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّ إقَامَةَ الْحُدُودِ لَا تَكُونُ لِكُلِّ أَحَدٍ، بَلْ وَلَا لِكُلِّ وَالٍ لِمَا تُؤَدِّي إلَيْهِ الْمُسَارَعَةُ إلَى إقَامَةِ الْحُدُودِ مِنْ غَيْرِهِمْ مِنْ الْفِتْنَةِ وَالتَّهَارُجِ.

وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ نَهَى الْوُلَاةَ عَنْ الْقَتْلِ إلَّا بِإِذْنِهِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى إقَامَةِ الْحُدُودِ أَحْكَامٌ مِنْ فِسْقِ الْمَحْدُودِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَيَجِبُ التَّحَوُّطُ لَهَا بِقَصْرِهَا عَلَى بَعْضِ الْوُلَاةِ وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ السِّيَاسَةَ لَيْسَ لَهُ فِيهَا مَدْخَلٌ: فَلَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ.

وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إنَّ خُطَّةَ الْقَضَاءِ أَعْظَمُ الْخُطَطِ قَدْرًا، وَإِنَّ إلَيْهِ الْمَرْجِعَ فِي الْجَلِيلِ وَالْحَقِيرِ بِلَا تَحْدِيدٍ، وَإِنَّ عَلَى الْقَاضِي مَدَارَ الْأَحْكَامِ وَإِلَيْهِ النَّظَرُ فِي جَمِيعِ وُجُوهِ الْقَضَاءِ مِنْ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِالنَّظَرِ فِي الْجِرَاحَاتِ وَالتَّدْمِيَاتِ، وَإِنَّ الْقَاضِيَ يُبَاشِرُ كُلَّ الْأُمُورِ إلَّا أُمُورًا خَاصَّةً وَسَيَأْتِي فِي أَوَّلِ الْقِسْمِ الثَّالِثِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهُ النَّظَرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ السِّيَاسَاتِ الشَّرْعِيَّةِ.

وَاعْلَمْ: أَنَّ الَّذِي يُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْعُرْفُ، وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ الْحَنْبَلِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ عُمُومَ الْوِلَايَاتِ وَخُصُوصَهَا وَمَا يَسْتَفِيدُ الْمُتَوَلِّي بِالْوِلَايَةِ يُتَلَقَّى مِنْ الْأَلْفَاظِ وَالْأَحْوَالِ وَالْعُرْفِ، وَلَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ فِي الشَّرْعِ، فَقَدْ يَدْخُلُ فِي وِلَايَةِ الْقَضَاءِ فِي بَعْضِ الْأَمْكِنَةِ وَفِي بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ مَا يَدْخُلُ فِي وِلَايَةِ الْحَرْبِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ قَاصِرًا عَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَقَطْ، فَيُسْتَفَادُ مِنْ وِلَايَةِ الْقَضَاءِ فِي كُلِّ قُطْرٍ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ وَاقْتَضَاهُ الْعُرْفُ، وَهَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

[فَصْلٌ نُوَّابُ الْقُضَاةِ]

(فَصْلٌ) :

أَمَّا نُوَّابُ الْقُضَاةِ فِي عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِهِمْ أَوْ مُطْلَقًا فَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: هُمْ مُسَاوُونَ لِلْقُضَاةِ الْأُصُولِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ، وَلَا فَرْقٍ إلَّا كَثْرَةَ الْعَمَلِ بِالنِّسْبَةِ إلَى كَثْرَةِ الْأَقْطَارِ وَقِلَّتِهَا، وَإِنَّ الْأَصْلَ لَهُ أَنْ يَعْزِلَ الْفَرْعَ بِخِلَافِ عَكْسِهِ، وَهَذَا فَرْقٌ لَا يَزِيدُ فِي مَعْنَى الْوِلَايَةِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ إنْ كَانَ فِي النَّائِبِ الْمُسْتَخْلَفِ بِإِذْنِ الْإِمَامِ فَمُسَلَّمٌ، وَإِلَّا فَالْمَنْقُولُ مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ خِلَافُهُ، وَهُوَ أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا اسْتَخْلَفَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ فَلِلْمُسْتَخْلَفِ التَّسْجِيلُ، وَإِلَّا فَيَرْفَعُ إلَى الْقَاضِي مَا ثَبَتَ عِنْدَهُ كَمَا سَتَقِفُ عَلَيْهِ فِي مَحَلِّهِ، إذْ لِلْقَاضِي أَنْ يُبِيحَ لِمَنْ قَدَّمَهُ النَّظَرَ فِي أَمْوَالِ الْأَيْتَامِ وَالْغِيَابِ وَالتَّسْجِيلِ فِي سَائِرِ الْحُكُومَاتِ، وَلَهُ أَنْ يَحْجُرَ

<<  <   >  >>