خَلْقِهِ، فَقَالَ تَعَالَى {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ} [النساء: ١٦٦] وَقَالَ تَعَالَى {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء: ٤١] فَجَعَلَ كُلَّ نَبِيٍّ شَهِيدًا عَلَى أُمَّتِهِ؛ لِكَوْنِهِ أَفْضَلَ خَلْقِهِ فِي عَصْرِهِ، وَقَالَ تَعَالَى {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: ١٨] وَيَكْفِي الشَّهَادَةَ شَرَفًا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَفَضَ الْفَاسِقَ عَنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِ وَرَفَعَ الْعَدْلَ بِقَبُولِهَا مِنْهُ، فَقَالَ تَعَالَى {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: ٦] وَقَالَ تَعَالَى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: ٢] وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْعَدْلَ هُوَ الْمَرْضِيُّ بِقَوْلِهِ {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: ٢٨٢] وَعَرَّفَنَا سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ قَوَامُ الْعَالَمِ فِي الدُّنْيَا فَقَالَ تَعَالَى {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة: ٢٥١] قَالَ بَعْضُهُمْ: الْإِشَارَةُ إلَى مَا يَدْفَعُ اللَّهُ عَنْ النَّاسِ بِالشُّهُودِ فِي حِفْظِ الْأَمْوَالِ وَالنُّفُوسِ وَالدِّمَاءِ وَالْأَعْرَاضِ فَهُمْ حُجَّةُ الْإِمَامِ وَبِقَوْلِهِمْ تَنْفُذُ الْأَحْكَامُ.
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ «أَكْرِمُوا مَنَازِلَ الشُّهُودِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَسْتَخْرِجُ بِهِمْ الْحُقُوقَ وَيَرْفَعُ بِهِمْ الظُّلْمَ» وَاشْتَقَّ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ اسْمًا مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَهُوَ الشَّهِيدُ تَفَضُّلًا وَكَرَمًا.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ لِلشَّاهِدِ حَالَتَيْنِ: حَالَةُ التَّحَمُّلِ، وَحَالَةُ الْأَدَاءِ، وَأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْأَدَاءِ الْحُرِّيَّةَ وَالْبُلُوغَ وَالْإِسْلَامَ، فَيُشْتَرَطُ وُجُودُ ذَلِكَ عِنْدَ الْأَدَاءِ وَلَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ عِنْدَ التَّحَمُّلِ.
وَأَهْلِيَّةُ الْأَدَاءِ تَثْبُتُ بِمَا تَثْبُتُ بِهِ أَهْلِيَّةُ التَّحَمُّلِ وَبِأُمُورٍ أُخَرَ، وَهُوَ النُّطْقُ وَالْحِفْظُ وَالْيَقَظَةُ؛ لِأَنَّ بِالْحِفْظِ يَبْقَى عِنْدَهُ مَا يَتَحَمَّلُهُ مِنْ الشَّهَادَةِ إلَى حِينِ أَدَائِهَا، وَبِالنُّطْقِ يَقْدِرُ عَلَى الْأَدَاءِ؛ وَبِالْيَقَظَةِ لَا يَغْفُلُ عَنْ أَدَاءِ مَا يَجِبُ أَدَاؤُهُ، حَتَّى أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ تِسْعَةٍ: الصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ، وَالْمَجْنُونِ لَا يَصِحُّ لِعَدَمِ عَقْلِهِمَا، وَالْأَخْرَسِ لِعَدَمِ نُطْقِهِ.
وَالْأَعْمَى لِعَدَمِ الْبَصَرِ، وَإِنْ كَانَ بَصِيرًا وَقْتَ التَّحَمُّلِ أَعْمَى عِنْدَ الْأَدَاءِ لَا تُقْبَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَمْيِيزِ مَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ وَبِهِ الْفَتْوَى، وَالصَّبِيِّ الَّذِي يَعْقِلُ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَلْحَقَهُ بِعَدِيمِ الْعَقْلِ فِي حَقِّ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ وَالدَّائِرَةِ بَيْنَ الضَّرَرِ وَالنَّفْعِ، وَالشَّهَادَةُ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ فَلَمْ يَبْقَ أَهْلًا شَرْعًا.
وَالْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَلْحَقَهُ بِالْعَاجِزِ وَالْكَافِرِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَبْطَلَ أَهْلِيَّتَهُ فِي حَقِّ الشَّهَادَةِ عَلَى الْمُسْلِمِ.
وَالْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَبْطَلَ أَهْلِيَّتَهُ عَلَى التَّأْبِيدِ وَأَلْحَقَهُ بِالْأَخْرَسِ؛ لِأَنَّهُ جَنَى بِلِسَانِهِ فَعَاقَبَهُ بِقَطْعِ لِسَانِهِ مَعْنًى.
وَالْمُغَفَّلِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ قَالَ: أَرْجُو دُعَاءَهُ وَلَا أَقْبَلُ شَهَادَتَهُ، وَلِهَذَا إذَا شَهِدَ الصَّبِيُّ فِي حَادِثَةٍ فَرُدَّتْ ثُمَّ أَعَادَهَا بَعْدَ الْبُلُوغِ تُقْبَلُ.
وَكَذَا الْعَبْدُ إذَا شَهِدَ فِي حَادِثَةٍ فَرُدَّتْ ثُمَّ أَعَادَهَا بَعْدَ الْعِتْقِ تُقْبَلُ.
وَكَذَا الذِّمِّيُّ إذَا شَهِدَ عَلَى مُسْلِمٍ فَرُدَّتْ ثُمَّ أَعَادَهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ تُقْبَلُ، وَكَذَا الْأَعْمَى إذَا شَهِدَ فَرُدَّتْ ثُمَّ أَعَادَهَا بَعْدَ مَا أَبْصَرَ؛ لِأَنَّ الْمَرْدُودَ لَمْ يَكُنْ شَهَادَةً وَإِنَّمَا حَدَثَتْ لَهُ الشَّهَادَةُ بَعْدَ زَوَالِ الْعَوَارِضِ.
بِخِلَافِ مَا إذَا شَهِدَ الْفَاسِقُ فِي حَادِثَةٍ فَرُدَّتْ لِفِسْقِهِ ثُمَّ أَعَادَهَا بَعْدَ التَّوْبَةِ لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ الْمَرْدُودَ كَانَ شَهَادَةً؛ لِأَنَّ الْفَاسِقَ أَهْلٌ لِلشَّهَادَةِ عِنْدَنَا، وَكَذَا الذِّمِّيُّ إذَا شَهِدَ عَلَى ذِمِّيٍّ أَوْ حَرْبِيٍّ مُسْتَأْمَنٍ فَرُدَّتْ لِفِسْقِهِ فِي دِينِهِ ثُمَّ أَعَادَهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ لَهُ شَهَادَةً عَلَى جِنْسِهِ فَكَانَ الْمَرْدُودُ شَهَادَةً.
وَكَذَا الْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ إذَا رُدَّتْ شَهَادَتُهُ فِي حَادِثَةٍ ثُمَّ أَعَادَهَا بَعْدَ التَّوْبَةِ، وَكَذَا إذَا شَهِدَ فِي حَادِثَةٍ فَرُدَّتْ ثُمَّ ارْتَدَّ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ أَعَادَهَا لَا تُقْبَلُ، لِمَا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّ الشَّرْعَ أَبْطَلَ أَهْلِيَّةَ شَهَادَتِهِ عَلَى التَّأْبِيدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: ٤] بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ إذَا حُدَّ فِي قَذْفٍ ثُمَّ شَهِدَ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ ثُمَّ أَعَادَهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ حَيْثُ تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ خُصَّ عَنْ هَذَا النَّصِّ بِالْإِجْمَاعِ. وَأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ إذَا شَهِدَ لِصَاحِبِهِ فَرُدَّتْ فَأَعَادَهَا بَعْدَ الْإِبَانَةِ لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ الْمَرْدُودَ كَانَ شَهَادَةً.
[فَصْلٌ حَدُّ الْعَدَالَةِ]
(فَصْلٌ) :
قَالَ فِي فَتَاوَى صَاعِدٍ: حَدُّ الْعَدَالَةِ أَنْ يَكُونُوا أَحْرَارًا عُقَلَاءَ بَالِغِينَ غَيْرَ مُرْتَكِبِينَ كَبِيرَةً وَلَا مُصِرِّينَ عَلَى صَغِيرَةٍ وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمْ كَذِبٌ.
قَالَ الطَّحَاوِيُّ: قَالَ مَا أَوْعَدَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالنَّارِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: مَا يَتَعَلَّقُ الْحَدُّ أَوْ الزَّجْرُ بِهِ.
وَفِي فَتَاوَى أَبِي اللَّيْثِ: شَرْطُ الْعَدَالَةِ أَنْ يَجْتَنِبَ الْأُمُورَ الْمُسْتَشْنَعَةَ وَفِيهِ يَقَظَةٌ، وَلَا يَكُونُ