للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كَانَ عَلَيْهِ نِصْفُ مَا اكْتَسَبَ مِنْ الْإِثْمِ، وَإِنْ أَمَّرَهُ أَوْ اسْتَقْضَاهُ نَصِيحَةً لِلْمُسْلِمِينَ كَانَ شَرِيكَهُ فِيمَا عَمِلَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا عَمِلَ مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ.

وَلْيَخْتَرْ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الدِّينِ وَالْفَضْلِ وَالْوَرَعِ وَالْعِلْمِ كَمَا فَعَلَ أَبُو بَكْرٍ فِي اسْتِخْلَافِهِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَهْلُ الْقَضَاءِ مَنْ كَانَ عَالِمًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاجْتِهَادِ الرَّأْيِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ قَاضِيًا إلَى الْيَمَنِ «بِمَ تَقْضِي يَا مُعَاذُ» الْحَدِيثُ.

وَلِأَنَّ الْقَاضِيَ مَأْمُورٌ بِالْقَضَاءِ بِالْحَقِّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: ٢٦] وَإِنَّمَا يُمْكِنُهُ الْقَضَاءُ بِالْحَقِّ إذَا كَانَ عَالِمًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاجْتِهَادِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ الْحَوَادِثَ مَمْدُودَةٌ وَالنُّصُوصَ مَعْدُودَةٌ، فَلَا يَجِدُ الْقَاضِي فِي كُلِّ حَادِثَةٍ نَصًّا يَفْصِلُ بِهِ الْخُصُومَةَ فَيَحْتَاجُ إلَى اسْتِنْبَاطِ الْمَعْنَى مِنْ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ إذَا كَانَ عَالِمًا بِالِاجْتِهَادِ، وَالْعَدَالَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِلْأَهْلِيَّةِ، بَلْ هِيَ شَرْطُ الْأَوْلَوِيَّةِ حَتَّى إنَّ الْفَاسِقَ يُصْبِحُ قَاضِيًا، لَكِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي عَدْلًا.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَصِحُّ قَاضِيًا، وَهُوَ رِوَايَةُ الْخَصَّافِ حَتَّى إنَّ الْفَاسِقَ لَوْ تَقَلَّدَ الْقَضَاءَ يَصِيرُ قَاضِيًا، وَلَوْ قَضَى يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ صَلَحَ شَاهِدًا عِنْدَنَا يَصْلُحُ قَاضِيًا؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يُبْتَنَى عَلَى الشَّهَادَةِ، مِنْ الْمُحِيطِ.

قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: وَجُمْهُورُ الْمُقَلِّدِينَ فِي هَذَا الزَّمَانِ لَا تَجِدُ عِنْدَهُمْ مِنْ آثَارِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ كَبِيرَ شَيْءٍ، وَإِنَّمَا مُصْحَفُهُمْ مَذْهَبُ إمَامِهِمْ.

وَقَدْ أَطَالَ النَّاسُ الْكَلَامَ فِي صِفَةِ مَنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَمِنْ صِفَتِهِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُسْتَكْبِرٍ عَنْ مَشُورَةِ مَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَرِعًا ذَكِيًّا فَطِنًا، مُتَأَنِّيًا غَيْرَ عَجُولٍ، نَزِهًا عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ، عَاقِلًا مَرْضِيَّ الْأَحْوَالِ، مَوْثُوقًا بِاحْتِيَاطِهِ فِي نَظَرِهِ لِنَفْسِهِ فِي دِينِهِ وَفِيمَا جَمُلَ مِنْ أَمْرِهِ وَمَنْ وَلِيَ النَّظَرَ لَهُمْ، غَيْرَ مَخْدُوعٍ، وَقُورًا مَهِيبًا، عَبُوسًا مِنْ غَيْرِ غَضَبٍ، مُتَوَاضِعًا مِنْ غَيْرِ ضَعْفٍ، حَاكِمًا بِشَهَادَةِ الْعُدُولِ، لَا يَطَّلِعُ النَّاسُ مِنْهُ عَلَى عَوْرَةٍ، وَلَا يَخْشَى فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ حَدِيثٍ لَا فِقْهَ عِنْدَهُ، أَوْ صَاحِبَ فِقْهٍ لَا حَدِيثَ عِنْدَهُ، عَالِمًا بِالْفِقْهِ وَالْآثَارِ، وَتَوَجُّهِ الْفِقْهِ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْهُ الْحُكْمُ.

قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: مَنْ رَاقَبَ اللَّهَ تَعَالَى فَكَانَتْ عُقُوبَتُهُ أَخْوَفَ فِي نَفْسِهِ مِنْ النَّاسِ وَهَبَهُ اللَّهُ السَّلَامَةَ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَكُونَ مُتَيَقِّظًا كَثِيرَ التَّحَرُّزِ مِنْ الْحِيَلِ، وَمَا يَتِمُّ مِثْلُهُ عَلَى الْعَقْلِ النَّاقِصِ أَوْ الْمُتَهَاوِنِ، وَأَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالشُّرُوطِ عَارِفًا بِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنْ الْعَرَبِيَّةِ وَاخْتِلَافِ مَعَانِي الْعَرَبِيَّةِ وَالْعِبَارَاتِ، فَإِنَّ الْأَحْكَامَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعِبَارَاتِ فِي الدَّعَاوَى وَالْإِقْرَارِ وَالشَّهَادَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ كِتَابَ الشُّرُوطِ هُوَ الَّذِي يَتَضَمَّنُ حُقُوقَ الْمَحْكُومِ لَهُ وَعَلَيْهِ، وَالشَّهَادَةُ تُسْمَعُ بِمَا فِيهِ، فَقَدْ يَكُونُ الْعَقْدُ وَاقِعًا عَلَى وَجْهٍ يَصِحُّ أَوْ لَا يَصِحُّ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ عِلْمٌ بِتَفْصِيلِ ذَلِكَ وَبِمَحِلِّهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ غَيْرَ زَائِدٍ فِي الدَّهَاءِ، وَذَلِكَ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى الْفِطْنَةِ، وَإِنَّمَا نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْحُكْمِ بِالْفِرَاسَةِ وَتَعْطِيلِ الطُّرُقِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ الْبَيِّنَةِ وَالْأَيْمَانِ، وَقَدْ فَسَدَ الزَّمَانُ وَأَهْلُهُ وَاسْتَحَالَ الْحَالُ.

[فَصْل: فِي الْأَحْكَامِ اللَّازِمَةِ لِلْقَاضِي فِي سِيرَتِهِ]

الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي الْأَحْكَامِ اللَّازِمَةِ لِلْقَاضِي فِي سِيرَتِهِ، وَالْآدَابِ الَّتِي لَا يَسَعُهُ تَرْكُهَا.

وَمَا جَرَى عَمَلُ الْحُكَّامِ بِالْأَخْذِ بِهِ. وَنَبْدَأُ بِرِسَالَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْمَعْرُوفَةِ بِرِسَالَةِ الْقَضَاءِ وَمَعَانِي الْأَحْكَامِ، وَعَلَيْهَا احْتِذَاءُ قُضَاةِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ ذَكَرَهَا كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَصَدَّرُوا بِهَا كُتُبَهُمْ، وَهَذِهِ الرِّسَالَةُ أَصْلٌ فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ فُصُولِ الْقَضَاءِ، وَهِيَ: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ عُمَرَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: سَلَامٌ عَلَيْك، فَإِنِّي أَحْمَدُ اللَّهَ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ الْقَضَاءَ فَرِيضَةٌ مُحْكَمَةٌ وَسُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ، فَافْهَمْ إذَا

<<  <   >  >>