للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الْقَضَاءَ: أَمْرٌ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ، وَهُمَا رَضِيَا بِرَأْيِهِمَا دُونَ رَأْيِ أَحَدِهِمَا فَلَمْ يَنْفَرِدْ أَحَدُهُمَا بِالْقَضَاءِ كَوَكِيلَيْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَكَالْإِمَامِ إذَا فَوَّضَ الْقَضَاءَ إلَى اثْنَيْنِ لَا يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِهِ، فَكَذَا هَذَا.

(مَسْأَلَةٌ) :

حَكَّمَا رَجُلًا مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ فَقَالَا: لَمْ يَحْكُمْ بَيْنَنَا، وَقَالَ: حَكَمْت، فَالْحُكْمُ مُصَدَّقٌ مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ؛ لِأَنَّهُ حَكَى مَا يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَهُ وَإِنْشَاءَهُ، فَمَلَكَ الْإِقْرَارَ بِهِ وَجُعِلَ إقْرَارُهُ كَأَنَّهُ إنْشَاءُ الْحُكْمِ، وَلَا يُصَدَّقُ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْحُكْمِ.

[الرُّكْنُ الثَّانِي مِنْ أَرْكَانِ الْقَضَاء الْمَقْضِيِّ بِهِ]

" الْمَقْضِيُّ بِهِ، وَاجْتِهَادُ الْقَاضِي فِي الْقَضَاءِ " يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَمْ تُنْسَخْ، وَإِنْ وَرَدَ عَلَيْهِ شَيْءٌ لَمْ يَعْرِفْهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى يَقْضِي بِمَا جَاءَ فِي السُّنَّةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّا أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: ٧] الْآيَةَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ نَصًّا يَقْضِي بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي» فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمْ اخْتِلَافٌ فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي مِنْ أَهْلِ التَّمْيِيزِ وَالنَّظَرِ مَيَّزَ أَقَاوِيلَهُمْ وَرَجَّحَ قَوْلَ بَعْضِهِمْ وَنَظَرَ إلَى أَشْبَهِهَا بِالْحَقِّ وَأَقْرَبِهَا إلَى الصَّوَابِ وَأَحْسَنِهَا عِنْدَهُ وَقَضَى بِهِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ» فَإِنْ كَانَ شَيْءٌ لَمْ يَأْتِ فِيهِ مِنْ الصَّحَابَةِ قَوْلٌ وَكَانَ فِيهِ إجْمَاعُ التَّابِعِينَ قَضَى بِهِ؛ لِأَنَّ إجْمَاعَ كُلِّ عَصْرٍ حُجَّةٌ فَلَا يَسَعُهُ أَنْ يُخَالِفَهُ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَهُمْ يُرَجِّحُ قَوْلَ بَعْضِهِمْ وَيَقْضِي بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْل الِاجْتِهَادِ قَاسَهُ عَلَى مَا يُشْبِهُهُ مِنْ الْأَحْكَامِ وَاجْتَهَدَ بِرَأْيِهِ وَتَحَرَّى الصَّوَابَ ثُمَّ قَضَى بِرَأْيِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ يَسْتَفْتِي فِي ذَلِكَ فَيَأْخُذُ بِفَتْوَى الْمُفْتِي وَلَا يَقْضِي بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَلَا يَسْتَحْيِي مِنْ السُّؤَالِ لِئَلَّا يَلْحَقَهُ الْوَعِيدُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ» وَقَدْ تَقَدَّمَ، فَلَوْ قَاسَ مَسْأَلَةً عَلَى مَسْأَلَةٍ فَظَهَرَ خِلَافُهُ يَأْثَمُ إذْ لَيْسَ بِمُجْتَهِدٍ وَهُوَ مُتَعَدٍّ، فَالْخُصُومَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى الْقَاضِي.

[فَصْلٌ تَفْسِيرِ الِاجْتِهَادِ وَأَهْلِيَّةِ الِاجْتِهَادِ]

(فَصْلٌ) :

لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ تَفْسِيرِ الِاجْتِهَادِ وَأَهْلِيَّةِ الِاجْتِهَادِ. .

فَالِاجْتِهَادُ: بَذْلُ الْمَجْهُودِ فِي طَلَبِ الْمَقْصُودِ، وَأَمَّا أَهْلِيَّةُ الِاجْتِهَادِ: قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالنُّصُوصِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ هَذَا هُوَ الشَّرْطُ فِي السَّلَفِ لِصَيْرُورَةِ الرَّجُلِ مُجْتَهِدًا، وَلَا يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ الْفُرُوعِ الَّتِي اسْتَخْرَجَهَا الْمُجْتَهِدُونَ بِرَأْيِهِمْ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَعَ هَذَا: أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالْفُرُوعِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى اجْتِهَادِ السَّلَفِ كَفُرُوعِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذَا لِلتَّسْهِيلِ عَلَى النَّاسِ، فَإِنَّ مَنْ سَمِعَ عَامَّةَ ذَلِكَ وَتَفَقَّهَ فِيهِ يَصِيرُ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ.

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ: مَنْ حَفِظَ الْمَبْسُوطَ وَمَذْهَبَ الْمُتَقَدِّمِينَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ.

وَإِذَا بَلَغَ الرَّجُلُ هَذَا الْحَدَّ يَصِيرُ مُجْتَهِدًا، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِاجْتِهَادِهِ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ، ثُمَّ إذَا اجْتَهَدَ الْمُجْتَهِدُ فِي ذَلِكَ وَبَالَغَ فِيهِ هَلْ يَكُونُ مُصِيبًا عَلَى كُلِّ حَالٍ أَوْ يَجُوزُ الْخَطَأُ عَلَيْهِ؟ قَالَ أَهْلُ الْحَقِّ بِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ قَدْ يُخْطِئُ وَقَدْ يُصِيبُ فِي الشَّرْعِيَّاتِ.

وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: إنَّهُ مُصِيبٌ فِي اجْتِهَادِهِ بِكُلِّ حَالٍ، وَلَكِنَّهُ قَدْ يُخْطِئُ فِيمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ بِأَنْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ بِخِلَافِهِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَالْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ وَتَفْسِيرُهُ مَا ذَكَرْنَا.

وَقَالَ عَامَّةُ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَكْثَرُ الْأَشْعَرِيَّةِ: إنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فِي الشَّرْعِيَّاتِ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ مَوْضِعَ الِاجْتِهَادِ عِنْدَهُمْ حُقُوقٌ، وَكُلُّ مُجْتَهِدٍ أَدَّى اجْتِهَادُهُ إلَى شَيْءٍ يَكُونُ صَوَابًا فِي حَقِّهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى لَا فِي حَقِّ صَاحِبِهِ.

وَعِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ: الْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ، وَالِاجْتِهَادُ طَلَبُ ذَلِكَ الْحَقِّ، فَإِنْ وَجَدَهُ يَكُنْ مُصِيبًا، وَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ يَكُنْ مُخْطِئًا ضَرُورَةً وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ

<<  <   >  >>