للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بِالصِّحَّةِ، وَكَذَا قَالَ الشَّيْخُ سِرَاجُ الدِّينِ قَالَ: وَعَلَى هَذَا فَمَنْ أَحْضَرَ كِتَابَ وَقْفٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ أَثْبَتَ صُدُورَهُ وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَ الْحَاكِمِ مَا يَقْتَضِي الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ، فَلَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يُجِيبَهُ إلَى الْحُكْمِ بِصِحَّتِهِ وَلَا بِمُوجَبِهِ؛ لِأَنَّ الْوَاقِفَ قَدْ يَأْتِي مَثَلًا بِشُهُودٍ يَشْهَدُونَ عِنْدَ حَاكِمٍ آخَرَ أَنَّ الْحَاكِمَ الْأَوَّلَ حَكَمَ بِمُوجَبِ هَذَا الْوَقْفِ فَيَجْعَلُهُ الْحَاكِمُ الثَّانِي حُكْمًا مِنْ الْأَوَّلِ بِنَفَاذِ الْوَقْفِ وَلَعَلَّهُ لِغَيْرِ الْوَاقِفِ فَعَلَى هَذَا لَا يُجِيبُهُ إلَى الْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ يَشْهَدُونَ بِأَنَّهُ مَلَكَهُ حِينَ الْوَقْفِ.

قَالَ: وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَيَزِيدُونَ الْحِيَازَةَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مَبْسُوطٌ فِي مَحَلِّهِ وَمَا ذَكَرَهُ صَحِيحٌ فَيَنْبَغِي التَّنْبِيهُ لَهُ، وَهَذَا هُوَ الِاعْتِرَاضُ الْوَارِدُ عَلَى الْفَرْقِ الْأَوَّلِ مِنْ الْفُرُوقِ الْعَشَرَةِ.

قَالَ: وَهَذَا عِنْدَ الْحَاكِمِ فِيمَا يُثْبِتُهُ مِنْ صُدُورِ وَقْفٍ أَوْ بَيْعٍ، وَأَمَّا الشَّهَادَةُ عِنْدَ الْحَاكِمِ بِصِيغَةِ الْمَصْدَرِ أَوْ بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ كَقَوْلِ الشُّهُودِ: نَشْهَدُ أَنَّ هَذَا وَقْفٌ أَوْ هَذَا مَبِيعٌ مِنْ فُلَانٍ، أَوْ هَذِهِ مَنْكُوحَةُ فُلَانٍ، فَإِنَّ الْحَاكِمَ يَحْكُمُ بِمُوجَبِ شَهَادَتِهِمْ وَيَكُونُ ذَلِكَ مُتَضَمِّنًا لِلْحُكْمِ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ وَنَحْوِهِ، فَلْيَعْرِفْ الْفَقِيهُ الْفَرْقَ بَيْنَ الشَّهَادَةِ بِالْمَصْدَرِ أَوْ بِاسْمِ الْمَفْعُولِ وَلْيَقِسْ عَلَى ذَلِكَ انْتَهَى.

وَعَلَى هَذَا فَيَنْبَغِي أَنْ يُكْتَبَ فِي الْأَمْرِ بِالتَّسْجِيلِ " لِيُسَجِّلْ بِثُبُوتِهِ وَالْحُكْمُ بِمُوجَبِ مَا قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ " - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ -.

(تَنْبِيهٌ) :

وَلَمْ أَقِفْ لِلْمَالِكِيَّةِ عَلَى هَذِهِ التَّفْرِقَةِ، وَظَاهِرُ قَوَاعِدِهِمْ عَدَمُ اعْتِبَارِهَا وَذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ عَنْ الْمَالِكِيَّةِ مَا ذَكَرْتُهُ قَبْلُ وَاسْتَبْعَدَهُ فَقَالَ: قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ حَتَّى يَثْبُتَ عِنْدَهُ الْمِلْكُ وَالْحِيَازَةُ، يُرِيدُ إلَى حِينِ صُدُورِ الْوَقْفِ.

قَالَ: وَهَذَا بَعِيدٌ وَفِيهِ تَعْطِيلٌ لِلْحُقُوقِ، وَالْيَدُ يُكْتَفَى بِهَا فِي الْمُعَامَلَاتِ.

[فَصْلٌ فِي الْحُكْمِ بِمَضْمُونِهِ]

(فَصْلٌ) :

فِي الْحُكْمِ بِمَضْمُونِهِ

هَذِهِ اللَّفْظَةُ ذَكَرَهَا الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ اسْتِطْرَادًا فِي كَلَامِهِ فِي الْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ فَقَالَ: وَقَدْ عَرَضَ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ بَحْثٌ فِي الْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ وَشُغِفَ بِهِ جَمَاعَةُ مِمَّنْ لَقِينَاهُمْ وَعَاصَرْنَاهُمْ وَبَحَثْنَا مَعَهُمْ مِنْ أَصْحَابنَا، وَهُوَ أَنَّ الْمُوجَبَ عِنْدَهُمْ أَمْرٌ مُبْهَمٌ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الصِّحَّةَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهَا.

وَحُكْمُ الْقَاضِي يَنْبَغِي أَنْ يُعَيَّنَ، فَإِذَا لَمْ يُعَيَّنْ فَلَا يَصِحُّ، وَلَا يُرْفَعُ الْخِلَافُ مِنْ قَاضٍ يَرَى خِلَافَ ذَلِكَ. مِثَالُ ذَلِكَ، وَهَبَ شَيْئًا يُقْسَمُ لِرَجُلَيْنِ فَقَبَضَا ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ، يَجُوزُ.

فَلَوْ رُفِعَ ذَلِكَ إلَى قَاضٍ حَنَفِيٍّ وَحَكَمَ فِيهِ بِالْمُوجَبِ فَإِذَا لَمْ يُعَيِّنْ مَا أَرَادَ فَلَا يَصِحُّ وَلَا يُرْفَعُ الْخِلَافُ وَلَا يُمْنَعُ الْحُكْمُ مِنْ قَاضٍ يَرَى خِلَافَ ذَلِكَ، وَنَقَضُوا بِهَذَا أَوْقَافًا كَثِيرَةً وَأَحْكَامًا كَثِيرَةً، وَتَعَلَّقُوا فِي ذَلِكَ بِمَا ذَكَرَهُ أَبُو سَعِيدٍ الْهَرَوِيُّ وَالرَّافِعِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَمَالَ إلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّ مَا يُكْتَبُ عَلَى ظُهُورِ الْكُتُبِ الْحُكْمِيَّةِ وَهُوَ صَحُّ وَوَرَدَ هَذَا الْكِتَابُ عَلَيَّ فَقَبِلْته قَبُولَ مِثْلِهِ وَأَلْزَمْت الْعَمَلَ بِمُوجَبِهِ لَيْسَ بِحُكْمٍ لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْمُرَادَ تَصْحِيحُ الْكِتَابِ وَإِثْبَاتُ الْحُجَّةِ.

قَالَ: وَاَلَّذِي وَقَعْت عَلَيْهِ فِي كِتَابِ أَبِي سَعِيدٍ وَأَلْزَمْت الْعَمَلَ بِمَضْمُونِهِ لَا بِمُوجَبِهِ وَنَحْنُ نَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا فَنَقُولُ: إذَا أَعَدْنَا الضَّمِيرَ عَلَى الْكِتَابِ صَحَّ مَا قَالَاهُ؛ لِأَنَّ مَضْمُونَ الْكِتَابِ وَمُوجَبَهُ مَعْنَاهُمَا صُدُورُ مَا تَضَمَّنَهُ مِنْ إقْرَارٍ أَوْ إنْشَاءٍ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِزُورٍ، فَلِذَلِكَ صَوَّبَ الرَّافِعِيُّ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ وَنَحْنُ نُوَافِقُهُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ إذَا أُرِيدَ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ هَذَا الْمَعْنَى أَوْ اُحْتُمِلَ أَنَّهَا مُرَادُ الْحَاكِمِ، أَمَّا إذَا حَكَمَ بِمُوجَبِ الْإِقْرَارِ أَوْ بِمُوجَبِ الْوَقْفِ فَلَيْسَ مُوجَبُهُ إلَّا كَوْنَهُ وَقْفًا وَكَوْنَ الْمُقَرِّ بِهِ لَازِمًا.

وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: مُوجَبُهُ يَحْتَمِلُ الصِّحَّةَ وَالْفَسَادَ مَمْنُوعٌ فَإِنَّ اللَّفْظَ الصَّحِيحَ يُوجِبُ حُكْمَهُ، وَاللَّفْظُ الْفَاسِدُ لَا يُوجِبُ شَيْئًا. نَعَمْ قَدْ يَكُونُ لَفْظٌ يَحْتَمِلُ مُوجَبَيْنِ، فَيَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يُبَيِّنَ فِي حُكْمِهِ مَا أَرَادَهُ كَمَا ذَكَرْته فِي مِثَالِ الْهِبَةِ لِرَجُلَيْنِ، وَإِبْهَامُ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ إلَّا أَنْ يَخْشَى مِنْ ظَالِمٍ وَنَحْوِهِ يُرِيدُ فَيَكْتُبُ لَهُ لِيُسَجِّلْ بِثُبُوتِهِ وَالْحُكْمُ بِمُوجَبِهِ أَوْ مَضْمُونِهِ.

وَمُرَادُهُ إعَادَةُ الضَّمِيرِ فِي مُوجَبِهِ وَمَضْمُونِهِ عَلَى الْكِتَابِ

<<  <   >  >>