بِهَذَا السَّبَبِ، وَلَكِنَّا لَا نَعْرِفُ حُدُودَهَا وَلَا نَقِفُ عَلَيْهَا، وَشَهِدَ آخَرَانِ بِحُدُودِ الدَّارِ الْمُدَّعَى بِهَا لَا تُقْبَلُ وَفِي عَامَّةِ الرِّوَايَاتِ تُقْبَلُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ. اُنْظُرْ الْقِنْيَةَ وَالْخُلَاصَةَ.
[الْبَابُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ غَيْرِ الْعُدُولِ لِلضَّرُورَةِ]
فِي الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ غَيْرِ الْمَعْدُولِ لِلضَّرُورَةِ. حَكَى بَعْضُهُمْ أَنَّ أَهْلَ الْبَادِيَةِ إذَا شَهِدُوا فِي حَقٍّ لِامْرَأَةٍ أَوْ غَيْرِهَا وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ عَدْلٌ، أَنْ يَسْتَكْثِرَ مِنْهُمْ وَيَقْضِي بِشَهَادَتِهِمْ.
(فَرْعٌ) :
وَسُئِلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَنْ الْقُرَى الْبَعِيدَةِ مِنْ الْمُدُنِ عَلَى الثَّلَاثِينَ مِيلًا وَالْأَرْبَعِينَ وَفِيهَا الثَّلَاثُونَ رَجُلًا، وَالْأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ وَالْأَقَلُّ، وَلَيْسَ فِيهِمْ عَدْلٌ مَشْهُورٌ بِعَدَالَةٍ، وَفِيهِمْ مُؤَذِّنُونَ وَأَئِمَّةٌ وَقَوْمٌ مَوْسُومُونَ بِخَيْرٍ غَيْرَ أَنَّ الْقُضَاةَ لَا يَعْرِفُونَهُمْ بِعَدَالَةٍ وَلَا يَجِدُونَ مَنْ يَعْرِفُهُمْ يَجْتَمِعُونَ عَلَى الشَّهَادَةِ عِنْدَهُمْ فِي الْأَمْلَاكِ وَالدُّيُونِ وَالْمُهُورِ وَالنِّكَاحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَلَا يُخَالِفُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، هَلْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ وَيُقْضَى بِهَا؟ أَوْ يُتْرَكُونَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْظَرَ فِي أَمْرِهِمْ؟ فَكَتَبَ فِي الْجَوَابِ لِكُلِّ قَوْمٍ عُدُولُهُمْ، وَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْقَاضِي لَهُمْ بِنَفْسِهِ: يَعْنِي بِذَلِكَ التَّوَسُّمَ فِيهِمْ.
(فَرْعٌ) :
وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَحْمِلَ كِتَابَ قَاضٍ إلَى قَاضٍ رَجُلَانِ فَيَشْهَدَا عِنْدَ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ عَلَى كِتَابِ الْقَاضِي وَأَثْنَى عَلَيْهِمَا الْقَاضِي عِنْدَهُ بِخَيْرٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَعْدِيلًا بَيِّنًا أَوْ زَكَّى أَحَدَهُمَا وَلَمْ يُزَكِّ الْآخَرَ أَوْ تَوَسَّمْ فِيهِمَا الصَّلَاحَ وَكَانَ الْخَطُّ وَالْخَتْمُ مَشْهُورَيْنِ عِنْدَ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ فَإِنِّي أَسْتَحْسِنُ إجَازَةَ مِثْلِ هَذَا لِتَعَذُّرِ الْعُدُولِ، وَلِمَا جَرَى بِهِ الْعَمَلُ فِي صَدْرِ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنْ إجَازَةِ الْخَوَاتِمِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
قَالَ الْقَرَافِيُّ فِي بَابِ السِّيَاسَةِ: نَصَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّا إذَا لَمْ نَجْدِ فِي جِهَةٍ إلَّا غَيْرَ الْعُدُولِ أَقَمْنَا أَصْلَحَهُمْ وَأَقَلَّهُمْ فُجُورًا لِلشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ، وَيَلْزَمُ ذَلِكَ فِي الْقُضَاةِ وَغَيْرِهِمْ لِئَلَّا تُضَيَّعَ الْمَصَالِحُ.
قَالَ: وَمَا أَظُنُّ أَحَدًا يُخَالِفُ فِي هَذَا، فَإِنَّ التَّكْلِيفَ شَرْطٌ فِي الْإِمْكَانِ، وَهَذَا كُلُّهُ لِلضَّرُورَةِ لِئَلَّا تُهْدَرَ الْأَمْوَالُ وَتُضَيَّعَ الْحُقُوقُ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: وَإِذَا كَانَ النَّاسُ فُسَّاقًا إلَّا الْقَلِيلَ النَّادِرَ قُبِلَتْ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَيُحْكَمُ بِشَهَادَةِ الْأَمْثَلِ فَالْأَمْثَلِ مِنْ الْفُسَّاقِ، هَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ وَإِنْ أَنْكَرَهُ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ بِأَلْسِنَتِهِمْ، كَمَا أَنَّ الْعَمَلَ عَلَى صِحَّةِ وِلَايَةِ الْفَاسِقِ وَنُفُوذِ أَحْكَامِهِ وَإِنْ أَنْكَرُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَكَذَلِكَ الْعَمَلُ عَلَى صِحَّةِ كَوْنِ الْفَاسِقِ وَلِيًّا فِي النِّكَاحِ وَوَصِيًّا فِي الْمَالِ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا نَقَلَهُ الْقَرَافِيُّ، وَإِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُ الْفَاسِقِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ وَحُكِمَ بِهَا، وَاَللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَأْمُرْ بِرَدِّ خَبَرِ الْفَاسِقِ فَلَا يَجُوزُ رَدُّهُ مُطْلَقًا بَلْ يَتَثَبَّتُ فِيهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ صِدْقُهُ مِنْ كَذِبِهِ فَيَعْمَلُ عَلَى مَا تَبَيَّنَ وَفِسْقُهُ عَلَيْهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ لِرَدِّ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ مَأْخَذَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَدَمُ الْوُثُوقِ بِهِ وَأَنَّهُ يُحَمِّلُهُ قِلَّةَ مُبَالَاتِهِ بِدِينِهِ وَنُقْصَانَ وَقَارِ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَلْبِهِ عَلَى تَعَمُّدِ الْكَذِبِ.
الثَّانِي هَجْرُهُ عَلَى إعْلَانِهِ بِفِسْقِهِ وَمُجَاهَرَتُهُ بِهِ، فَقَبُولُ شَهَادَتِهِ فِيهَا إبْطَالٌ لِهَذَا الْغَرَضِ الْمَطْلُوبِ شَرْعًا، فَإِذَا عَلِمَ صِدْقَ لَهْجَتِهِ وَأَنَّهُ مِنْ أَصْدَقِ النَّاسِ وَأَنَّ فِسْقَهُ بِغَيْرِ الْكَذِبِ، فَلَا وَجْهَ لِرَدِّ شَهَادَتِهِ. وَقَدْ اسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَادِيًا يَدُلُّهُ عَلَى طَرِيقِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ مُشْرِكٌ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ، وَلَكِنْ لَمَّا وَثِقَ بِقَوْلِهِ أَمِنَهُ وَدَفَعَ إلَيْهِ رَاحِلَتَهُ وَقَبِلَ دَلَالَتَهُ.
وَقَالَ أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ: إذَا شَهِدَ الْفَاسِقُ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّوَقُّفُ فِي الْقَضِيَّةِ، وَقَدْ يُحْتَجُّ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} [الحجرات: ٦]