للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

رَجُلَيْنِ مِنْ صَالِحِي جِيرَانِهِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَقَالَ: اُسْتُرَا عَلَى أَنْفُسِكُمَا وَلَا تُطْلِعَانِي عَلَى سِرِّكُمَا.

وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: رُدُّوا الْقَضَاءَ بَيْنَ ذَوِي الْأَرْحَامِ حَتَّى يَصْطَلِحُوا، فَإِنَّ فَصْلَ الْقَضَاءِ يُورِثُ الضَّغَائِنَ.

قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّمَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَأْمُرَ بِالصُّلْحِ إذَا تَقَارَبَ الْحُجَّتَانِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ غَيْرَ أَنَّ أَحَدَهُمَا يَكُونُ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ الْآخَرِ، أَوْ تَكُونُ الدَّعْوَى فِي أُمُورٍ دَرَسَتْ وَتَقَادَمَتْ وَتَشَابَهَتْ.

وَأَمَّا إذَا تَبَيَّنَ لِلْحَاكِمِ مَوْضِعُ الظَّالِمِ مِنْ الْمَظْلُومِ لَمْ يَسَعْهُ مِنْ اللَّهِ إلَّا فَصْلُ الْقَضَاءِ.

وَمِنْهَا: أَنَّهُ إذَا طَالَ الْخِصَامُ فِي أَمْرٍ وَكَثُرَ التَّشْغِيبُ فِيهِ فَلَا بَأْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يُمَزِّقَ كُتُبَهُمْ إذَا رَجَا بِذَلِكَ تَقَارُبَ أَمْرِهِمْ، وَاسْتَحْسَنَهُ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ، وَقَدْ حَدَثَ ذَلِكَ فِي زَمَانِ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، وَهَذَا إذَا حَكَمَ الْقَاضِي لِرَجُلَيْنِ بِقَضَاءَيْنِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ فَيَقُومَانِ عِنْدَ قَاضٍ غَيْرِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مَعَهُ حُكْمُ ذَلِكَ الْقَاضِي فِي الشَّيْءِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ أَنَّهُ لَهُ.

قَالَ: فَحَائِزُهُ مِنْهُمَا أَوْلَى بِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَائِزُ قَدْ حُكِمَ لَهُ بِهِ أَوَّلًا وَفِي قَضِيَّةِ الثَّانِي مَا يَنْسَخُ ذَلِكَ، فَتُرَدُّ قَضِيَّةُ الْأَوَّلِ، فَإِنْ لَمْ يَحُزْهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا أَوْ لَمْ يُعْلَمْ الْأَوَّلُ مِنْ الْآخِرِ، فَأَعْدَلُهُمَا بَيِّنَةً، فَإِنْ تَكَافَأَتَا وَالْقَضِيَّتَانِ مُؤَرَّخَتَانِ فَأُولَاهُمَا أَوْلَى، إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الثَّانِيَةِ مَا يَنْسَخُهَا، فَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا مُؤَرَّخَةً دُونَ الْأُخْرَى فَالْمُؤَرَّخَةُ أَوْلَى، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَارِيخٌ وَلَمْ يَكُنْ فِي يَدِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَأُشْكِلَ الْأَمْرُ عَلَى الْحَاكِمِ وَرَأَى أَنْ يَقْطَعَ الْقَضِيَّتَيْنِ وَيَسْتَأْنِفَ الْحُكْمَ فَعَلَ، وَهَذَا إذَا كَانَتَا جَمِيعًا صَوَابًا، فَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا خَطَأً فَلَا إشْكَالَ فِي رَدِّ مَا كَانَ الْحُكْمُ فِيهِ خَطَأً.

[فَصْل فِيمَا يَبْتَدِئُ الْقَاضِي بِالنَّظَرِ فِيهِ]

الْفَصْلُ الْخَامِسُ: " فِيمَا يَبْتَدِئُ بِالنَّظَرِ فِيهِ " وَيَلْزَمُهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يَبْتَدِئُ بِهِ الْكَشْفُ عَنْ الشُّهُودِ وَالْمُوَثَّقِينَ فَيَعْرِفُ حَالَ مَنْ لَا يُعْرَفُ حَالُهُ مِنْهُمْ وَيَفْحَصُ عَنْ عَدَالَتِهِمْ، فَمَنْ كَانَ عَدْلًا أَثْبَتَهُ، وَمَنْ فِيهِ جُرْحَةٌ أَسْقَطَهُ وَأَرَاحَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَذِيَّتِهِ.

وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ غَيْرَ الْمَرْضِيِّ يَنْتَصِبُ لِلنَّاسِ فَإِنَّهَا خَدِيعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَوَصْمَةٌ فِي شَعَائِرِ الدِّينِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُصَرِّحَ بِعَزْلِ هَؤُلَاءِ، وَيُسَجِّلَ عَلَى شَاهِدِ الزُّورِ كِتَابًا مُخَلَّدًا.

وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْكَشْفُ عَنْ الْمَحْبُوسِينَ فَيَنْظُرُ فِي أُمُورِهِمْ وَفِي مُدَّةِ إقَامَتِهِمْ فِي الْحَبْسِ، فَقَدْ يَكُونُ فِيهِمْ مَنْ طَالَتْ إقَامَتُهُ فَتَكُونُ إقَامَتُهُ فِي الْحَبْسِ ظُلْمًا لَهُ.

ثُمَّ يَنْظُرُ فِي الْأَوْصِيَاءِ وَأَمْوَالِ الْأَيْتَامِ، وَيَأْمُرُ مَنْ يُنَادِي عَنْ إذْنِهِ إنَّهُ قَدْ حَجَرَ عَلَى كُلِّ يَتِيمٍ لَا وَلِيَّ لَهُ، وَعَلَى كُلِّ سَفِيهٍ مُسْتَوْجِبِ الْوِلَايَةِ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ مَنْ عَلِمَ مِنْكُمْ أَحَدًا مِنْ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ فَلْيَرْفَعْ أَمْرَهُمَا إلَيْنَا نُوَلِّ عَلَيْهِ وَمَنْ بَاعَ مِنْهُمَا بَعْدَ النِّدَاءِ فَهُوَ مَرْدُودٌ.

[فَصْل فِي سِيرَةِ الْقَاضِي مَعَ الْخُصُومِ]

الْفَصْلُ السَّادِسُ فِي سِيرَتِهِ مَعَ الْخُصُومِ وَيَنْبَغِي لَهُ أُمُورٌ.

مِنْهَا: أَنَّهُ إذَا حَضَرَ الْخَصْمَانِ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيُسَوِّ بَيْنَهُمَا فِي النَّظَرِ إلَيْهِمَا وَالتَّكَلُّمِ مَعَهُمَا مَا لَمْ يَلِدَّ أَحَدُهُمَا فَلَا بَأْسَ أَنْ يَسُوءَ نَظَرُهُ إلَيْهِ تَأْدِيبًا لَهُ وَيَرْفَعَ صَوْتَهُ عَلَيْهِ لِمَا صَدَرَ مِنْهُ مِنْ اللَّدَدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذَا إذَا عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ صَاحِبِهِ فَعَلَ بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَيَحُضُّهُمَا عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْمُحَاكَمَةِ عَلَى التَّوَدُّدِ وَالْوَقَارِ، وَيُسَكِّنُ جَأْشَ الْمُضْطَرِبِ مِنْهُمَا، وَيُؤَمِّنُ رَوْعَ الْخَائِفِ وَالْحَصْرِ فِي الْكَلَامِ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ ذَلِكَ، وَيُقْعِدُهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ضَعِيفَيْنِ كَانَا أَوْ قَوِيَّيْنِ، أَوْ ضَعِيفٌ مَعَ قَوِيٍّ، وَلَا يُقَرِّبُ أَحَدَهُمَا إلَيْهِ، وَلَا يُقْبِلُ عَلَيْهِ دُونَ خَصْمِهِ، وَلَا يَمِيلُ إلَى أَحَدِهِمَا بِالسَّلَامِ فَيَخُصُّهُ بِهِ وَلَا بِالتَّرْحِيبِ، وَلَا يَرْفَعُ مَجْلِسَهُ، وَلَا يَسْأَلُ أَحَدَهُمَا عَنْ حَالِهِ وَلَا عَنْ خَبَرِهِ، وَلَا عَنْ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِهِمَا فِي مَجْلِسِهِمَا ذَلِكَ، وَلَا يُسَارُّهُمَا جَمِيعًا وَلَا أَحَدَهُمَا، فَإِنَّ ذَلِكَ يُجَرِّئُهُمَا عَلَيْهِ وَيُطْمِعُهُمَا فِيهِ، وَمَا جَرَّ إلَى التَّهَاوُنِ بِحُدُودِ اللَّهِ فَمَمْنُوعٌ.

وَيُسَوِّي بَيْنَهُمَا، فَإِنْ كَانَ

<<  <   >  >>