للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أَحَدُهُمَا ذِمِّيًّا فَإِنْ أَبَى ذَلِكَ الْمُسْلِمُ وَهُوَ الطَّالِبُ فَلَا يَحْكُمُ لَهُ وَلَا يَنْظُرُ فِي أَمْرِهِ حَتَّى يَتَسَاوَيَا فِي الْمَجْلِسِ وَيَرْضَى بِالْحَقِّ، فَإِنْ كَانَ هُوَ الْمَطْلُوبَ قَالَ الْقَاضِي لِلْمُسْلِمِ: إمَّا أَنْ تُسَاوِيَهُ فِي الْمَجْلِسِ وَإِلَّا نَظَرْت لَهُ وَسَمِعْت مِنْهُ وَلَمْ أَلْتَفِتْ إلَيْك وَلَمْ أَسْمَعْ مِنْك، فَإِنْ فَعَلَ نَظَرَ لَهُ.

وَقِيلَ لَا يُسَوِّي بَيْنَهُمَا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا تُسَاوُوهُمْ فِي الْمَجْلِسِ» وَاسْتَحْسَنَ بَعْضُ أَشْيَاخِي تَمْيِيزَ رُتْبَةِ الْمُسْلِمِ عَلَى الذِّمِّيِّ لِنَهْيِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنْ يُسَاوَى بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ فِي الْمَجْلِسِ.

وَذُكِرَ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَاصَمَ يَهُودِيًّا عِنْدَ الْقَاضِي شُرَيْحٍ، فَجَلَسَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي صَدْرِ الْمَجْلِسِ وَجَلَسَ شُرَيْحٌ وَالذِّمِّيُّ دُونَهُ، وَقَالَ عَلِيٌّ: لَوْلَا أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَى عَنْ مُسَاوَاتِهِمْ فِي الْمَجْلِسِ لَجَلَسْت مَعَهُ.

قَالَ بَعْضُهُمْ: وَأَرَى أَنْ يَجْلِسَا جَمِيعًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَيَتَقَدَّمُهُ الْمُسْلِمُ بِالشَّيْءِ الْيَسِيرِ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُدْخِلَ عَلَيْهِ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ دُونَ صَاحِبِهِ لَا فِي مَجْلِسِ قَضَائِهِ وَلَا فِي خَلْوَتِهِ وَلَا وَحْدَهُ وَلَا فِي جَمَاعَةٍ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ خَاصًّا حَتَّى تَنْقَضِيَ خُصُومَتُهُمَا إلَّا أَنْ يَجْلِسَ خَارِجًا فِي مَجْلِسِهِ الَّذِي يَجْلِسُ النَّاسُ مَعَهُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ قَضَائِهِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَجْلِسَ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ فِيهِ إنْ شَاءَ.

وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُضَيِّفَ أَحَدَهُمَا أَوْ يَخْلُوَ مَعَهُ أَوْ يَقِفَ مَعَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُدْخِلُ عَلَيْهِ سُوءَ الظَّنِّ بِهِ.

وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُجِيبَ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ فِي غَيْبَةِ الْآخَرِ إلَّا أَنْ يَظْهَرَ لَهُ اللَّدَدُ مِنْ الْخَصْمِ الْغَائِبِ أَوْ لَا يَعْرِفَ وَجْهَ خُصُومَةِ الْمُدَّعِي فَلَا بَأْسَ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ لِيَعْرِفَ حَقِيقَةَ أَمْرِهِمَا.

وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَا يُلَقِّنُ أَحَدَهُمَا حُجَّتَهُ؛ لِأَنَّهُ مَتَى أَعَانَ أَحَدَهُمَا يُضْعِفُ الْآخَرَ فَيَعْجِزُ عَنْ الْإِدْلَاءِ بِحُجَّتِهِ.

وَمِنْهَا أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ الْخُصُومِ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ، وَأَنْ يُقَدِّمَ الْمُسَافِرِينَ وَالْمَضْرُورِينَ وَمَنْ لَهُ مُهِمٌّ يَخْشَى فَوَاتَهُ، فَإِنْ كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ مَنْ يَكْتُبُ أَسْمَاءَهُمْ عَلَى تَرْتِيبِ وُصُولِهِمْ وَيَدْعُو الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ " اُنْظُرْ التَّجْرِيدَ ".

قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: وَإِذَا قُلْنَا إنَّهُ يَبْدَأُ بِالْأَسْبَقِ فَالْأَسْبَقِ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: إنَّ الْأَوَّلَ يُقَدَّمُ فِي خِصَامِهِ مَعَ وَاحِدٍ فَقَطْ لَا فِي سَائِرِ مَطَالِبِهِ مَعَ خُصُومِهِ.

قَالَ: وَهَذَا عِنْدِي مِمَّا يُنْظَرُ فِيهِ، فَإِنْ سَبَقَ بِخَصْمَيْنِ سَائِرَ الْمُتَخَاصِمِينَ فَفَرَغَ مِنْ طَلَبِ أَحَدِهِمَا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَ الْآخَرَ وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَطُولُ وَلَا يَضُرُّ بِالْجَمَاعَةِ الَّذِينَ بَعْدَهُ فَإِنَّهُ قَدْ يُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ خَاصَمَ الْأَوَّلَ وَطَالَ خِصَامُهُ مَعَهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ حَقِّ الَّذِينَ بَعْدَهُ أَنْ يَمْنَعُوهُ وَرُبَّمَا كَانَ خِصَامُ الِاثْنَيْنِ كَخِصَامِ وَاحِدٍ تَطُولُ مَعَهُ مُخَاصَمَتُهُ.

وَمِنْهَا: إذَا قَرَّرَ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ صَاحِبَهُ عَلَى مَا يَدَّعِيه أَلْزَمَهُ الْجَوَابَ بِالْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ، فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ الْجَوَابِ فَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ.

وَمِنْهَا: إذَا شَتَمَ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ صَاحِبَهُ زَجَرَهُ، فَإِذَا أَسْرَعَ إلَيْهِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ مِثْلَ قَوْلِهِ: " لَهُ يَا ظَالِمُ يَا فَاجِرُ وَنَحْوِ ذَلِكَ " زَجَرَهُ عَنْهُ، وَيَضْرِبُ فِي مِثْلِ هَذَا إلَّا أَنْ يَكُونَ ظَنَّهُ مِنْ ذِي مُرُوءَةٍ فَيَنْهَاهُ.

وَمِنْهَا: إذَا قَالَ الْخَصْمُ لِلشَّاهِدِ " شَهِدْت عَلَيَّ بِالزُّورِ " وَقَصَدَ أَذَاهُ نَكَّلَ بِقَدْرِ حَالِهِمَا، وَإِنْ كَانَ إنَّمَا عَنِيَ أَنَّ الَّذِي شَهِدْت عَلَيَّ بَاطِلٌ لَمْ يُعَاقَبْ يَعْنِي: أَنَّهُ بَاطِلٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِكَوْنِهِ أَدَّى الدَّيْنَ الْمَشْهُودَ بِهِ عَلَيْهِ مَثَلًا وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ عَلَى الْأَدَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ يُؤَدَّبُ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ إذَا أَسَاءَ عَلَى الشُّهُودِ وَأَهْلِ الْفَتْوَى أَوْ عَرَضَ لَهُمْ بِمَا يُؤْذِيهِمْ أَدَبًا مُوجِعًا.

وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَأْمُرَ الْخَصْمَيْنِ إذَا جَاءَ الشُّهُودُ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهَا بِالسُّكُوتِ، وَأَنْ لَا يَتَعَرَّضَا لِلشُّهُودِ بِتَوْبِيخٍ وَلَا بِعَيْبٍ فَإِنْ فَعَلَا ذَلِكَ أَوْ فَعَلَهُ أَحَدُهُمَا بَعْدَ النَّهْيِ أُدِّبَ بِحَسَبِ الْقَائِلِ وَالْمَقُولِ لَهُ.

وَمِنْهَا: إذَا نَهَى الْحَاكِمُ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ عَنْ الْكَلَامِ وَلَمْ يَفْعَلْ وَأَتَى بِالْحُجَجِ لِيَخْلِطَ عَلَى صَاحِبِهِ وَيَمْنَعَهُ مِنْ الْكَلَامِ وَيُكْثِرَ مُعَارَضَتَهُ فِي كَلَامِهِ، أَمَرَ الْقَاضِي بِأَدَبِهِ.

<<  <   >  >>