للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أَلْزَمَهُ مَا لَا يَرَى أَنَّهُ الْحَقُّ عِنْدَهُ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُنَفِّذُهُ وَيُلْزِمُ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ مَا تَضَمُّنُهُ الْحُكْمُ؛ لِأَنَّ تَوْقِيفَهُ عَنْ إنْفَاذِهِ كَإِبْطَالِهِ، وَقَدْ قُلْنَا: إنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْ نَقْضِ الْأَحْكَامِ الْمُجْتَهَدِ فِيهَا، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ الْمَذْهَبِ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لَمْ أَجِدْهُ لِأَهْلِ الْمَذْهَبِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[فَصْلٌ فِيمَا يَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ]

(فَصْلٌ) :

فِيمَا يَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ اعْلَمْ: أَنَّهُ كَمَا يَدُلُّ الْقَوْلُ عَلَى الْحُكْمِ فِي قَوْلِ الْحَاكِمِ: أُشْهِدُكُمْ أَنِّي حَكَمْت بِكَذَا. فَكَذَا الْفِعْلُ يَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ أَيْضًا، وَذَلِكَ إذَا كَتَبَ الْحَاكِمُ إلَى حَاكِمٍ آخَرَ: إنِّي قَدْ حَكَمْتُ بِكَذَا فَهَذِهِ الْكِتَابَةُ تَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ كَمَا هُوَ مَشْرُوحٌ فِي كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي.

وَكَذَلِكَ لَوْ سُئِلَ هَلْ حَكَمْتَ بِكَذَا فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ وَيُفْهِمُ أَنَّهُ حَكَمَ بِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَتَبَ الْحُكْمَ بِيَدِهِ وَقَالَ: اشْهَدُوا عَلَيَّ بِمَضْمُونِهِ، فَجَمِيعُ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى صُدُورِ الْحُكْمِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ أَمْرٌ نَفْسَانِيٌّ لَا لِسَانِيٌّ؛ لِأَنَّهُ تَارَةً يُخْبِرُ عَنْهُ بِالْقَوْلِ وَتَارَةً بِالْفِعْلِ وَتَارَةً بِالْإِشَارَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ غَيْرُ قَوْلِهِ وَكِتَابَتِهِ وَإِشَارَتِهِ، وَإِنَّمَا هَذِهِ الْأُمُورُ دَالَّةٌ عَلَى الْحُكْمِ كَسَائِرِ مَا يَقُومُ بِالنَّفْسِ مِنْ الْأَحْكَامِ وَالْأَخْبَارِ وَغَيْرِهِمَا.

(فَصْلٌ) :

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ أَمْرٌ قَائِمٌ بِالنَّفْسِ لَا بِاللِّسَانِ أَنَّهُ قَدْ يَقْتَرِنُ إنْشَاءُ الْحُكْمِ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَيُوَافِقُ إنْشَاءُ الْحُكْمِ وَقْتَ الْإِشْهَادِ عَلَيْهِ.

وَقَدْ يَفْتَرِقَانِ سِنِينَ كَثِيرَةً بِأَنْ يَحْكُمَ فِي شَيْءٍ وَلَا يُشْهِدُ بِالْحُكْمِ عَلَى نَفْسِهِ فِي ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ فِي نَفْسِهِ وَقَائِمًا بِذَاتِهِ مِنْ الْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ لَا اللِّسَانِيِّ.

وَاعْلَمْ: أَنَّ الْحُكْمَ تَارَةً يَكُونُ خَبَرًا يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، وَتَارَةً يَكُونُ إنْشَاءً لَا يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ.

فَالْأَوَّلُ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: قَدْ حَكَمْتُ بِكَذَا فِي الصُّورَةِ الْفُلَانِيَّةِ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ بِحَسَبِ مَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ مِنْ حَالِهِ.

وَالثَّانِي مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: اشْهَدُوا عَلَيَّ بِكَذَا، أَوْ إنِّي أَلْزَمْتُ فُلَانًا بِكَذَا، فَهُوَ إنْشَاءٌ لَا يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ؛ لِأَنَّهُ إنْشَاءُ الطَّلَبِ مِنْ الشُّهُودِ أَنْ يَشْهَدُوا عَلَيْهِ بِكَذَا، وَإِنَّمَا يُوصَفُ هَذَا بِالصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ - وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -

[الْقِسْمُ الثَّانِي فِي بَيَانِ الْمُدَّعِي مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ]

: فِي بَيَانِ الْمُدَّعِي مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ

اعْلَمْ: أَنَّ عِلْمَ الْقَضَاءِ يَدُورُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْمُدَّعِي مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَصْلٌ مُشْكِلٌ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي حُكْمِ مَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَأَنَّ عَلَى الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ إذَا أَنْكَرَ الْمَطْلُوبُ، وَأَنَّ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْيَمِينَ إذَا لَمْ تَقُمْ الْبَيِّنَةُ، لَكِنَّ الشَّأْنَ فِي مَعْرِفَةِ الدَّعْوَى وَالْإِنْكَارِ وَالْمُدَّعِي وَالْمُنْكِرِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ -: الدَّعْوَى إضَافَةُ الشَّيْءِ إلَى نَفْسِهِ وَضْعًا، وَإِضَافَةُ الشَّيْءِ إلَى نَفْسِهِ مَعَ مِسَاسِ حَاجَتِهِ إلَيْهِ شَرْعًا.

وَالْمُدَّعِي وَضْعًا مَنْ يُضِيفُ الشَّيْءَ إلَى نَفْسِهِ مَعَ مِسَاسِ حَاجَتِهِ إلَيْهِ، وَلِهَذَا قُلْنَا: صَاحِبُ الْيَدِ مُدَّعَى عَلَيْهِ وَالْخَارِجُ مُدَّعٍ لَمَّا كَانَ صَاحِبُ الْيَدِ غَيْرَ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ ثَابِتٌ لَهُ ظَاهِرًا بِدَلَالَةِ يَدِ التَّصَرُّفِ جَعَلْنَاهُ مُنْكِرًا، وَالْخَارِجُ لَمَّا كَانَ مُحْتَاجًا إلَى إثْبَاتِ الْمِلْكِ لِنَفْسِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا جَعَلْنَاهُ مُدَّعِيًا شَرْعِيًّا وَجَعَلْنَا الْبَيِّنَةَ بَيِّنَتَهُ بِالنَّصِّ. وَقِيلَ الْمُدَّعِي مَنْ إذَا تَرَكَ الدَّعْوَى يُتْرَكُ: يَعْنِي تَنْقَطِعُ الْخُصُومَةُ بِتَرْكِهِ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ إذَا تَرَكَ الدَّعْوَى لَمْ يُتْرَكْ. وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ: الْمُدَّعِي مَنْ إذَا تَرَكَ الْخُصُومَةَ لَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ إذَا تَرَكَهَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا. وَقِيلَ الْمُدَّعِي مَنْ يَرُومُ إثْبَاتَ أَمْرٍ خَفِيٍّ يُرِيدُ بِهِ إزَالَةَ أَمْرٍ جَلِيٍّ، وَذَكَرَ فِي التُّحْفَةِ: الْمُدَّعِي مَنْ يَلْتَمِسُ إثْبَاتَ مِلْكٍ أَوْ حَقٍّ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يَنْفِيهِ وَيُدَافِعُهُ.

وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ اخْتِلَافِ الْحَدَّيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْتَمِدَ الْفَقِيهُ عَلَيْهِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ تَعْرِضُ، بَلْ هَا هُنَا مَا هُوَ آكَدُ وَاعْتِبَارُهُ أَنْفَعُ مِمَّا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ، فَإِنَّهَا هِيَ الْأَصْلُ الْمُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي مُقْتَضَى النَّظَرِ، وَلَا

<<  <   >  >>