للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لِلْقَاضِي أَنْ يَخْتَارَ لِلْمَسْأَلَةِ عَنْ الشُّهُودِ مَنْ هُوَ أَوْثَقُ النَّاسِ وَأَوْرَعُهُمْ دِيَانَةً وَأَعْظَمُهُمْ دِرَايَةً وَأَكْثَرُهُمْ خِبْرَةً وَأَعْلَمُهُمْ بِالتَّمْيِيزِ فِطْنَةً فَيُوَلِّيهِ الْمَسْأَلَةَ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ مَأْمُورٌ بِالتَّفَحُّصِ عَنْ الْعَدَالَةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْمُبَالَغَةُ وَالِاحْتِيَاطُ فِيهِ ثُمَّ يَكْتُبُ فِي رُقْعَةٍ أَسْمَاءَ الشُّهُودِ جُمْلَةً بِأَنْسَابِهِمْ وَحِلَّاهُمْ وَقَبَائِلِهِمْ وَمَحَالِّهِمْ وَمُصَلَّاهُمْ حَتَّى لَا يَتَمَكَّنَ فِيهِ الشُّبْهَةُ؛ لِأَنَّهُ يُتَوَهَّمُ أَنْ يَتَّفِقَ فِي تِلْكَ الْمَحَلَّةِ رَجُلَانِ فِي ذَلِكَ الِاسْمِ وَالنِّسْبَةِ، وَيُنَفِّذُ تِلْكَ الرُّقْعَةَ عَلَى يَدٍ أَمِينَةٍ إلَى ذَلِكَ الْمُزَكَّى، وَلَا يُطْلِعُ أَحَدًا عَلَى مَا فِي يَدِ أَمِينِهِ حَتَّى لَا يَعْلَمَ فَيَخْدَعَ.

وَذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى رَجُلٌ شَهِدَ عِنْدَ الْقَاضِي وَهُوَ عَلَى رَأْسِ خَمْسِينَ فَرْسَخًا مِنْ بَلَدِ الْقَاضِي فَيَبْعَثُ أَمِينًا يُجْعَلُ لِيَسْأَلَ الْعُدُولَ عَنْ الشَّاهِدِ وَالْجَعْلُ عَلَى الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ الْأَمِينَ عَامِلٌ لَهُ أَلَا يَرَى أَنَّ الصَّحِيفَةَ الَّتِي يَكْتُبُ فِيهَا قَضِيَّتَهُمَا عَلَيْهِ ثُمَّ يَنْظُرُ الْمُزَكَّى فِي ذَلِكَ وَيَتَعَرَّفُ أَحْوَالَ الشُّهُودِ مِمَّنْ يَعْرِفُ حَالَهُمْ فَيَسْأَلُ عَنْهُمْ أَهْلَ الثِّقَةِ وَالْأَمَانَةِ مِنْ جِيرَانِهِمْ وَأَهْلِ مَحَلَّاتِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي جِيرَانِهِمْ مَنْ يَصْلُحُ لِلْمَسْأَلَةِ عَنْهُمْ مِنْ أَهْلِ الثِّقَةِ يَسْأَلُ مِنْ أَهْلِ أَسْوَاقِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَعْرَفُ بِحَالِهِمْ، فَإِذَا قَالَ الْمَسْئُولُ عَنْهُ: هُوَ عَدْلٌ عِنْدِي جَائِزُ الشَّهَادَةِ. كَتَبَ فِي آخِرِ الرُّقْعَةِ أَنَّهُ عَدْلٌ مَرْضِيٌّ عِنْدِي جَائِزُ الشَّهَادَةِ، وَإِنْ كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ كَتَبَ إنَّهُ غَيْرُ عَدْلٍ وَرَدَّ تِلْكَ الرُّقْعَةَ إلَى الْقَاضِي فِي السِّرِّ.

[فَصْلٌ الْعَدَالَةُ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ]

(فَصْلٌ) :

وَالْعَدَدُ فِي الْمُزَكَّى وَرَسُولِ الْقَاضِي إلَى الْمُزَكَّى وَالْمُتَرْجِمِ عَلَى الشَّهَادَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَهُمَا، وَالْوَاحِدُ يَكْفِي وَالِاثْنَانِ أَحْوَطُ.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ: شَرْطٌ حَتَّى لَا تَثْبُتَ الْعَدَالَةُ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ، وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ هَلْ هُوَ شَهَادَةٌ أَمْ إخْبَارٌ؟

(فَصْلٌ) :

وَإِذَا أَتَاهُ كِتَابُ التَّعْدِيلِ وَاحْتَاطَ الْقَاضِي وَأَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ غَيْرَهُ أَيْضًا يَدْفَعُ إلَيْهِ أَسْمَاءَ الشُّهُودِ وَلَا يُعْلِمُهُ أَنَّهُ يَسْأَلُ عَنْ حَالِهِ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّهُ مَتَى أَعْلَمَهُ بِذَلِكَ رُبَّمَا يَعْتَمِدُ عَلَى قَوْلِ الْأَوَّلِ وَلَا يُبَالِغُ فِي الْفَحْصِ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنْ أَتَى الثَّانِي بِمِثْلِ مَا أَتَى بِهِ الْأَوَّلُ أَنْفَذَ ذَلِكَ.

[فَصْلٌ تَزْكِيَةُ الْعَلَانِيَةِ]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا تَزْكِيَةُ الْعَلَانِيَةِ قَالَ مُحَمَّدٌ: وَيُسْأَلُ الْعَلَانِيَةَ بَعْدَ التَّزْكِيَةِ فِي السِّرِّ، وَهُوَ أَنْ يُحْضِرَ الْقَاضِي الْمُزَكَّى بَعْدَ مَا زَكَّى الشُّهُودَ فِي السِّرِّ أَنْ يُزَكِّيَهُمْ بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي وَيُشِيرُ إلَيْهِمْ فَيَقُولُ: هَؤُلَاءِ عُدُولٌ عِنْدِي؛ إزَالَةً لِلِالْتِبَاسِ وَاحْتِرَازًا عَنْ التَّبْدِيلِ وَالتَّزْوِيرِ، وَالْيَوْمُ وَقَعَ الِاكْتِفَاءُ بِتَزْكِيَةِ السِّرِّ لِمَا فِي تَزْكِيَةِ الْعَلَانِيَةِ مِنْ بَلَاءٍ وَفِتْنَةٍ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَكُونُ الشَّاهِدُ فَاسِقًا فَلَا يُخْبِرُ مَنْ يَعْرِفُ حَالَ الشَّاهِدِ لِلْمُزَكَّى أَنَّهُ فَاسِقٌ فِي الْعَلَانِيَةِ، إمَّا سَتْرًا عَلَيْهِ حَتَّى لَا يُؤَدِّيَ إلَى الْفَضِيحَةِ أَوْ اتِّقَاءً مِنْ شَرِّهِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى الضَّغِينَةِ وَالْعَدَاوَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ.

(مَسْأَلَةٌ) :

ذَكَرَ الْخَصَّافُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي أَنَّ الْعَدَدَ فِي تَزْكِيَةِ الْعَلَانِيَةِ شَرْطٌ عِنْدَ الْكُلِّ؛ لِأَنَّ هَذِهِ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ وَأَنَّهَا تَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ الْقَاضِي، وَتَزْكِيَةُ السِّرِّ لَيْسَتْ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ وَيُشْتَرَطُ أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ بِتَزْكِيَةِ الْعَلَانِيَةِ بِخِلَافِ السِّرِّ.

(فَصْلٌ) :

لَوْ قَالَ الْمُزَكَّى لَا أَعْلَمُ مِنْهُ إلَّا خَيْرًا يُقْبَلُ مِنْهُ إذَا كَانَ عَالِمًا وَإِلَّا تَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ.

قَالَ مُحَمَّدٌ: غَرِيبٌ نَزَلَ بَيْنَ أَظْهُرِ قَوْمٍ سِتَّةَ أَشْهُرٍ فَلَمْ يَرَوْا مِنْهُ إلَّا خَيْرًا جَازَ لَهُمْ أَنْ يَعْدِلُوهُ؛ لِأَنَّ حَالَ الرَّجُلِ فِي الْفِسْقِ وَالْعَدَالَةِ يَتَبَيَّنُ بِمُضِيِّ مُدَّةِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ظَاهِرًا.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ آخِرًا: إذَا مَكَثَ سَنَةً فَلَمْ يَعْرِفُوا مِنْهُ إلَّا خَيْرًا جَازَ لَهُمْ أَنْ يَعْدِلُوهُ؛ لِأَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى حَالِ الْإِنْسَانِ إنَّمَا يَكُونُ بِالتَّجْرِبَةِ وَالِامْتِحَانِ، وَالْمُدَّةُ الَّتِي تَصْلُحُ لِلتَّجْرِبَةِ السَّنَةُ كَمَا فِي الْعِنِّينِ.

(مَسْأَلَةٌ) :

وَيَقُولُ الْمُزَكَّى فِي الشَّاهِدِ الْمَجْرُوحِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَلَا يَزِيدُ عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّ فِي ذِكْرِ فِسْقِهِ هَتْكَ سِتْرِهِ

<<  <   >  >>