للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الْمَذْهَبِ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِصَارِ وَالِاقْتِصَارِ عَلَى مَا يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ.

قَالَ الْقَرَافِيُّ فِي الْوِلَايَةِ السِّيَاسِيَّةِ، وَهِيَ وِلَايَةُ الْكَشْفِ عَنْ الْمَظَالِمِ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ نَظَرِ وَالِي الْمَظَالِمِ وَبَيْنَ الْقُضَاةِ مِنْ عَشْرَةِ أَوْجُهٍ.

الْأَوَّلُ: لَهُ يَعْنِي نَاظِرَ الْمَظَالِمِ مِنْ الْقُوَّةِ وَالْهَيْبَةِ مَا لَيْسَ لَهُمْ.

الثَّانِي: أَنَّهُ أَفْسَحُ مَجَالًا وَأَوْسَعُ مَقَالًا.

الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَسْتَعْمِلُ مِنْ الْإِرْهَابِ وَكَشْفِ الْأَشْيَاءِ بِالْأَمَارَاتِ الدَّالَّةِ وَشَوَاهِدِ الْأَحْوَالِ اللَّائِحَةِ مِمَّا يُؤَدِّي إلَى ظُهُورِ الْحَقِّ بِخِلَافِهِمْ.

الرَّابِعُ: أَنَّهُ يُقَابِلُ مَنْ ظَهَرَ ظُلْمُهُ بِالتَّأْدِيبِ بِخِلَافِهِمْ.

الْخَامِسُ: أَنَّهُ يَتَأَنَّى فِي تَرْدَادِ الْخُصُومِ عِنْدَ اللَّبْسِ لِيُمْعِنَ فِي الْكَشْفِ بِخِلَافِهِمْ إذَا سَأَلَهُمْ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ فَصْلَ الْحُكْمِ لَا يُؤَخِّرُوهُ.

السَّادِسُ: لَهُ رَدُّ الْخُصُومِ إذَا عَضَلُوا إلَى وَاسِطَةِ الْأُمَنَاءِ لِيَفْصِلُوا بَيْنَهُمْ صُلْحًا عَنْ تَرَاضٍ، وَلَيْسَ لِلْقُضَاةِ إلَّا بِرِضَا الْخَصْمَيْنِ.

السَّابِعُ: أَنْ يُفْسِحَ فِي مُلَازَمَةِ الْخَصْمَيْنِ إذَا وَضَحَتْ أَمَارَاتُ التَّجَاحُدِ، وَيُلْزِمَ فِي إلْزَامِ الْكَفَالَةِ فِيمَا شُرِعَ فِيهِ التَّكْفِيلُ لِيَنْقَادَ الْخُصُومُ إلَى التَّنَاصُفِ يَتْرُكُوا التَّجَاحُدِ بِخِلَافِهِمْ.

الثَّامِنُ: أَنَّهُ يَسْمَعُ شَهَادَاتِ الْمَسْتُورِينَ بِخِلَافِهِمْ.

التَّاسِعُ: لَهُ أَنْ يُحَلِّفَ الشُّهُودَ إذَا ارْتَابَ فِيهِمْ بِخِلَافِ الْقُضَاةِ.

الْعَاشِرُ: لَهُ أَنْ يَبْتَدِئَ بِاسْتِدْعَاءِ الشُّهُودِ وَيَسْأَلَهُمْ عَمَّا عِنْدَهُمْ فِي الْقَضِيَّةِ، بِخِلَافِ الْقُضَاةِ لَا يَسْمَعُونَ الْبَيِّنَةَ حَتَّى يُرِيدَ الْمُدَّعِي إحْضَارَهَا وَلَا يَسْمَعُونَهَا إلَّا بَعْدَ مَسْأَلَةِ الْمُدَّعِي لِسَمَاعِهَا.

وَهَذَا مُلَخَّصُ مَا ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ الشَّافِعِيُّ فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ، وَنُصُوصُ الْمَذْهَبِ تَقْتَضِي أَنَّ الْقَاضِيَ تَعَاطَى أَكْثَرَ هَذِهِ الْأُمُورِ، فَقَدْ قَالُوا فِي خِصَالِ الْقَاضِي: إنَّهُ يَأْخُذُ نَفْسَهُ بِالْمُجَاهَدَةِ، وَيَسْعَى فِي اكْتِسَابِ الْخَيْرِ وَيَطْلُبُهُ، وَيَسْتَصْلِحُ النَّاسَ بِالرَّهْبَةِ وَالرَّغْبَةِ، وَيَشْتَدُّ عَلَيْهِمْ فِي الْحَقِّ، وَلَا يَدْعُ مِنْ حَقِّ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَلِينُ مِنْ غَيْرِ غَضَبٍ حَتَّى قَالَ فِي الْمُحِيطِ: لَوْ سَلَّمَ عَلَيْهِ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ فِي الْمَجْلِسِ وَسِعَهُ أَنْ لَا يَرُدَّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ اتِّقَاءً لِحُرْمَةِ الْمَجْلِسِ، وَهَذَا نَصٌّ فِي اسْتِعْمَالِ الْقُوَّةِ وَالْهَيْبَةِ.

وَأَمَّا الْأَخْذُ بِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ فَلِلْقَاضِي أَنْ يَأْخُذَ بِالْأَمَارَاتِ وَالْقَرَائِنِ فِي وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ يَطُولُ ذِكْرُهَا، وَقَدْ أَفْرَدْتُ لَهَا بَابًا سَبَقَ ذِكْرُهُ.

وَأَمَّا مُقَابَلَةُ مَنْ ظَهَرَ ظُلْمُهُ بِالتَّأْدِيبِ فَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ.

قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ الْمُدَّعِيَ إذَا انْكَشَفَ لِلْحَاكِمِ أَنَّهُ مُبْطِلٌ فِي دَعْوَاهُ - فَإِنَّهُ يُؤَدِّبُهُ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ الْحَبْسُ؛ لِيَنْدَفِعَ بِذَلِكَ أَهْلُ الْبَاطِلِ وَاللَّدَدِ.

قَالَ فِي الْمُحِيطِ: وَلِلْقَاضِي أَنْ يَحْبِسَ الصَّبِيَّ الْفَاجِرَ عَلَى وَجْهِ التَّأْدِيبِ لَا عَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ حَتَّى لَا يُمَاطِلَ حُقُوقَ الْعِبَادِ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ يُؤَدَّبُ لِيَنْزَجِرَ عَنْ الْأَفْعَالِ الذَّمِيمَةِ، وَكَذَا إذَا آذَى أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ صَاحِبَهُ أَوْ تَشَاتَمَا عِنْدَهُ فَلَهُ حَبْسُهُمَا وَتَعْزِيرُهُمَا. وَأَمَّا تَأَنِّيهِ فِي تَرَادِّ الْخُصُومِ عِنْدَ اللَّبْسِ لِيُمْعِنَ فِي الْكَشْفِ فَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا فِي بَابِ الْآدَابِ الَّتِي يَنْبَغِي لِلْقَاضِي الْأَخْذُ بِهَا، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا طَالَ الْخِصَامُ فِي أَمْرٍ وَكَثُرَ التَّشْغِيبُ فِيهِ فَلَا بَأْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يُمَزِّقَ كُتُبَهُمْ - إذَا رَجَا بِذَلِكَ تَقَارُبَ أَمْرِهِمْ - وَيَفْسَخَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ الْحُجَجِ وَيَأْمُرَهُمْ بِابْتِدَاءِ الْحُكُومَةِ وَأَمَّا رَدُّ الْخُصُومَةِ إلَى وَاسِطَةِ الْأُمَنَاءِ لِيَفْصِلَ بَيْنَهُمْ بِالصُّلْحِ فَقَوَاعِدُ الْمَذْهَبِ وَمَسَائِلُهُ تَقْتَضِي ذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي بَابِ أَدَبِ الْقَاضِي أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا خَشِيَ مِنْ تَفَاقُمِ الْأَمْرِ بِإِنْفَاذِ الْحُكْمِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ، أَوْ كَانَا مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ أَوْ بَيْنَهُمَا رَحِمٌ سَوَّاهُ بَيْنَهُمَا وَأَمَرَهُمَا بِالصُّلْحِ.

وَقَدْ أَقَامَ بَعْضُ قُضَاةِ الْعَدْلِ مِنْ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ رَجُلَيْنِ مِنْ صَالِحِي جِيرَانِهِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَقَالَ: اُسْتُرَا عَلَى أَنْفُسِكُمَا وَلَا تُطْلِعَانِي عَلَى سِرِّكُمَا، وَلَا بُدَّ فِي هَذَا كُلِّهِ مِنْ الْوَسَائِطِ.

وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: رُدُّوا الْقَضَاءَ بَيْنَ ذَوِي الْأَرْحَامِ حَتَّى يَصْطَلِحُوا، فَإِنَّ فَصْلَ الْقَضَاءِ يُوَرِّثُ الضَّغَائِنَ.

وَأَمَّا كَوْنُهُ يَسْمَعُ شَهَادَاتِ الْمَسْتُورِينَ فَالْمَذْهَبُ أَنَّ الْقَاضِيَ يَسْمَعُهَا أَيْضًا فِي مَوَاطِنَ عَدِيدَةٍ، وَقَدْ ذَكَرْتُ ذَلِكَ فِي بَابِ الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ غَيْرِ الْعُدُولِ.

وَأَمَّا كَوْنُهُ يُحَلِّفُ الشُّهُودَ إذَا ارْتَابَ مِنْهُمْ فَقَدْ فَعَلَهُ قَاضِي الْقُضَاةِ ابْنُ بَشِيرٍ بِقُرْطُبَةَ، حَلَّفَ الشُّهُودَ فِي تَرِكَةٍ بِاَللَّهِ: إنَّ مَا شَهِدُوا بِهِ حَقٌّ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ

<<  <   >  >>