فِي عَدَمِ عِلْمِ الْغَيْبِ
قَالَ النَّوَوِيُّ مَعْنَاهُ التَّنْبِيهُ عَلَى حَالَةِ الْبَشَرِيَّةِ
وأَنَّ الْبَشَرَ لَا يعلمون عن الْغَيْبِ وَبَوَاطِنِ الْأُمُورِ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يُطْلِعَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ
وأَنَّهُ يَجُوزُ عَلَيْهِ فِي أُمُورِ الْأَحْكَامِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ
وأَنَّهُ إِنَّمَا يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ بِالظَّاهِرِ وَلَا يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ فَيَحْكُمُ بِالْبَيِّنَةِ وَبِالْيَمِينِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الظَّاهِرِ مَعَ إِمْكَانِ كَوْنِهِ فِي الْبَاطِنِ خِلَافَ ذَلِكَ
ولَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَطْلَعَهُ عَلَى بَاطِنِ أَمْرِ الْخَصْمَيْنِ فَحَكَمَ بِيَقِينِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى شَهَادَةٍ أَوْ يَمِينٍ
لَكِنْ لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أُمَّتَهُ بإتباعه والاقتداء فأقواله وَأَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ أَجْرَى لَهُ حُكْمَهُمْ فِي عَدَمِ الِاطِّلَاعِ عَلَى بَاطِنِ الْأُمُورِ لِيَكُونَ حُكْمُ الْأُمَّةِ فِي ذَلِكَ حُكْمَهُ فَأَجْرَى اللَّهُ تَعَالَى أَحْكَامَهُ عَلَى الظَّاهِرِ الَّذِي يَسْتَوِي فِيهِ هُوَ وَغَيْرُهُ لِيَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ انْتَهَى
(وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ) وفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ
قَالَ الْحَافِظُ أَلْحَنُ بِمَعْنَى أَبْلَغَ لِأَنَّهُ مِنْ لَحِنَ بِمَعْنَى فَطِنَ وَزْنُهُ وَمَعْنَاهُ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ أَفْطَنَ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ فِي حُجَّتِهِ مِنَ الْآخَرِ انْتَهَى
(فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ مِنَ النَّارِ) وفِي بَعْضِ النُّسَخِ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ أَيْ الَّذِي قَضَيْتُ لَهُ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ إِذَا كَانَ فِي الْبَاطِنِ لَا يَسْتَحِقُّهُ فَهُوَ عَلَيْهِ حَرَامٌ يؤول بِهِ إِلَى النَّارِ
وقَوْلُهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ تَمْثِيلٌ يُفْهَمُ مِنْهُ شِدَّةُ التَّعْذِيبِ عَلَى مَنْ يَتَعَاطَاهُ فَهُوَ مِنْ مَجَازِ التَّشْبِيهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى إنما يأكلون في بطونهم نارا قَالَ النَّوَوِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ لِمَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَجَمَاهِيرِ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَا يُحِلُّ الْبَاطِلَ وَلَا يُحِلُّ حَرَامًا
فَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَا زُورٍ لِإِنْسَانٍ بِمَالٍ فَحَكَمَ بِهِ الْحَاكِمُ لَمْ يَحِلُّ لِلْمَحْكُومِ لَهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ
ولَوْ شَهِدَا عَلَيْهِ بِقَتْلٍ لَمْ يَحِلَّ لِلْوَلِيِّ قَتْلُهُ مَعَ عِلْمِهِ بِكَذِبِهِمَا
وإن شهد بِالزُّورِ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ لَمْ يَحِلَّ لِمَنْ عَلِمَ بِكَذِبِهِمَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ حُكْمِ الْقَاضِي بِالطَّلَاقِ
وقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يُحِلُّ حُكْمُ الْحَاكِمِ الْفُرُوجَ دُونَ الْأَمْوَالِ فَقَالَ نُحِلُّ نِكَاحَ الْمَذْكُورَةِ
وهَذَا مُخَالِفٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَإِجْمَاعِ مَنْ قَبْلَهُ وَمُخَالِفٌ لِقَاعِدَةٍ وَافَقَ هُوَ وَغَيْرُهُ عَلَيْهَا وَهِيَ أَنَّ الْأَبْضَاعَ أَوْلَى بِالِاحْتِيَاطِ مِنَ الْأَمْوَالِ انْتَهَى
قَوْلُهُ (وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) أَخْرَجَهُ بن مَاجَهْ بِنَحْوِ حَدِيثِ الْبَابِ (وَعَائِشَةَ) لِيُنْظَرْ مَنْ أَخْرَجَهُ
قَوْلُهُ (حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) أَخْرَجَهُ الْجَمَاعَةُ وَلَهُ أَلْفَاظٌ