ثِقَاتٌ لَيْسَ فِيهِمْ مُتَّهَمٌ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ من هو سيىء الْحِفْظِ فَقَدْ تَابَعَهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ
فَإِنْ قُلْتَ فَفِي الْحَدِيثِ الثَّانِي شَكٌّ فِي رَفْعِهِ لِأَنَّهُ قَالَ فِيهِ ذَكَرَ أَحَدُهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قُلْتُ لَيْسَ بِشَكٍّ فِي رَفْعِهِ إِنَّمَا هُوَ جَزْمٌ بِأَنَّ أَحَدَ الرَّجُلَيْنِ رَفَعَهُ وَشَكَّ شُعْبَةُ فِي تَعْيِينِهِ هَلْ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ أَوْ عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ وَكِلَاهُمَا ثِقَةٌ فَإِذَا رَفَعَهُ أَحَدُهُمَا وَشَكَّ فِي تَعْيِينِهِ لَمْ يَكُنْ هَذَا عِلَّةً فِي الْحَدِيثِ
(فَصْلٌ) وَوَجْهُ إِشْكَالِهِ مَا اعْتَرَضَ بِهِ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ فَقَالَ هَلْ يَصِحُّ أَنَّ جِبْرِيلَ أَخَذَ يَمْلَأُ فَمَه بِالطِّينِ لِئَلَّا يَتُوبَ غَضَبًا عَلَيْهِ
وَالْجَوَابُ الْأَقْرَبُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ إِمَّا أَنْ يُقَالَ التَّكْلِيفُ هَلْ كَانَ ثَابِتًا أَمْ لَا فَإِنْ كَانَ ثَابِتًا لَا يَجُوزُ لِجِبْرِيلَ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ التَّوْبَةِ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُعِينَهُ عَلَى التَّوْبَةِ وَعَلَى كُلِّ طَاعَةٍ وَإِنْ كَانَ التَّكْلِيفُ زَائِلًا عَنْ فِرْعَوْنَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى لِهَذَا الَّذِي نُسِبَ إِلَى جِبْرِيلَ فَائِدَةٌ
وَأَيْضًا لَوْ مَنَعَهُ مِنَ التَّوْبَةِ لَكَانَ قَدْ رَضِيَ بِبَقَائِهِ عَلَى الْكُفْرِ والرضى بِالْكُفْرِ كُفْرٌ وَأَيْضًا فَكَيْفَ يَلِيقُ بِجَلَالِ اللَّهِ أَنْ يَأْمُرَ جِبْرِيلَ بِأَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ الْإِيمَانِ وَلَوْ قِيلَ إِنَّ جِبْرِيلَ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ لَا بِأَمْرِ اللَّهِ فَهَذَا يُبْطِلُهُ قَوْلُ جِبْرِيلَ وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ فَهَذَا وَجْهُ الْإِشْكَالِ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْإِمَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي كَلَامٍ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ أَنَّ الْحَدِيثَ قَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ لِأَحَدٍ وَأَمَّا قَوْلُ الْإِمَامِ إِنَّ التَّكْلِيفَ هَلْ كَانَ ثَابِتًا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ أَمْ لَا فَإِنْ كَانَ ثَابِتًا لَمْ يَجُزْ لِجِبْرِيلَ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ التَّوْبَةِ فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى أَصْلِ الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ الْقَائِلِينَ بِخَلْقِ الْأَفْعَالِ لِلَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْكَافِرِ وَالْإِيمَانِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يحول بين المرى وقلبه وَقَوْلُهُ تَعَالَى وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله عليها بكفرهم
وَقَالَ تَعَالَى وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يؤمنوا به أول مرة فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَلَّبَ أَفْئِدَتَهُمْ مِثْلَ تَرْكِهِمُ الْإِيمَانَ أَوَّلَ مَرَّةٍ
وَهَكَذَا فَعَلَ بِفِرْعَوْنَ مَنَعَهُ مِنَ الْإِيمَانِ جَزَاءً عَلَى تَرْكِهِ الْإِيمَانَ أولا فدس الطين في فِرْعَوْنَ مِنْ جِنْسِ الطَّبْعِ وَالْخَتْمِ عَلَى الْقَلْبِ وَمَنْعِ الْإِيمَانِ وَصَوْنِ الْكَافِرِ عَنْهُ وَذَلِكَ جَزَاءً عَلَى كُفْرِهِ السَّابِقِ
وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ الْقَائِلِينَ بِخَلْقِ الْأَفْعَالِ لِلَّهِ وَمِنَ الْمُنْكَرِينَ لِخَلْقِ الْأَفْعَالِ مَنِ اعْتَرَفَ أَيْضًا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَفْعَلُ هَذَا عُقُوبَةً لِلْعَبْدِ عَلَى كُفْرِهِ السَّابِقِ فَيَحْسُنُ مِنْهُ أَنْ يُضِلَّهُ وَيَطْبَعَ عَلَى قَلْبِهِ وَيَمْنَعَهُ مِنَ الْإِيمَانِ